أحكام تعاقد الشخص مع نفسه في القانون المدني
مقدمة :
كما يصح أن يصدر التعاقد من الشخص صاحب الشأن في التصرف , يصح أن يصدر كذلك من شخص ينوب عنه في إبرام التصرف , وهذه هي النيابة في التعاقد . والنيابة هي قيام شخص يقال له النائب بإبرام تصرف قانوني باسم شخص آخر ولحسابه يقال له الأصيل , بحيث ينتج التصرف آثاره مباشرة في ذمة الأصيل .
والنيابة قد تكون قانونية , كما في حالة الاشخاص الذين لا تتوافر لهم أهلية التعاقد , وهم القصر والمحجور عليهم والغائبون ومن يلحق بهؤلاء , ويحدد القانون نطاق سلطة النائب , كما هي الحال بالنسبة إلي الولي والوصي والقيم والوكيل عن الغائب والسنديك والحارس القضائي والفضولي والدائن الذي يستعمل حق مدينه , وقد يحدد القانون شخص النائب كما في الولي , وقد يتولي القاضي أمر هذا التعيين كما هو الحال بالنسبة للوصي والقيم .
وقد تكون نيابة اتفاقية (الوكالة) وهي تكون بالنسبة للاشخاص البعيدين الذين لا يمكن لهم أن يتواجدوا في مكان إبرام التصرف , أو لا تسمح ظروفهم ومشاغلهم بإبرام التصرف , أو لا يكونون علي خبرة بموضوع التصرف , فينيب هؤلاء عنهم غيرهم للقيام بالعمل , ويحدد الاتفاق نطاق سلطة النائب , كما في عقد الوكالة .
والاصل أن النيابة تجوز في كل تصرف قانوني, وتستثني من ذلك التصرفات التي تعتبر أعمالا شخصية بمعني انها يجب أن تصدر من صاحب الشأن فيها شخصيا , فهذه لا تجوز النيابة فيها , كحلف اليمين والتوقيع .
والنيابة بصفة عامة لها ثلاثة شروط وهي : أن تحل إرادة النائب محل إرادة الأصيل , وأن يتعاقد النائب بأسم الأصيل أي بصفته نائبا عنه , وأن يكون التعاقد في حدود السلطة المخلولة للنائب .
س : ما هي الإرادة محل الإعتبار عند التعاقد ؟ هل هي إرادة النائب أم الأصيل ؟
ج : يكون شخص النائب لا شخص الأصيل هو محل الأعتبار عند النظر في صحة التعبير عن الإرادة , ومدي ما يتأثر به هذا التعبير من وجود عيوب في الإرادة , أو من العلم ببعض الظروف الخاصة أو وجوب العلم بها . وقد نصت المادة 104 مدني علي ذلك صراحة ” 1 – إذا تم العقد بطريق النيابة , كان شخص النائب لا شخص الأصيل هو محل الإعتبار عند النظر في عيوب الإرادة , أو في أثر العلم ببعض الظروف الخاصة , أو افتراض العلم بها حتما ” .
س : لكن ماذا لو شارك كل من النائب والاصيل في ابرام التصرف ؟
ج : في هذه الحالة يجب أن نعتد بكل من الإرادتين بالقدر الذي ساهمت به في ابرام التصرف . فمثلا لو أن الموكل كلف وكيله بشراء شئ معين بالذات , وكان قد وقع في غلط بالنسبة إلي هذا الشئ , أو كان ضحية تدليس أو اكراه أو استغلال , فإن العقد الذي يبرمه الوكيل يكون قابلا للإبطال , رغم أن ارادة النائب لم يشوبها عيب . وذلك لأن إرادة الأصيل كانت معيبه في القدر الذي ساهمت به في ابرام هذا العقد . وإذا عهد الموكل الي وكيله بشراء منزل معين وكان يعلم بما فيه من عيب يجهله الموكل , فلا يجوز له أن يرجع علي البائع بدعوي العيب , وقد أفصح المشرع عن ذلك صراحة في المادة 104 مدني المنوه عنها الفقرة الثانية بقوله ” 2 – ومع ذلك إذا كان النائب وكيلا ويتصرف وفقا لتعليمات معينه صدرت له من موكله , فليس للموكل أن يتمسك بجهل النائب لظروف كان يعلمها هو , أو كان من المفروض حتما أن يعلمها ” .
يعني باختصار الاشتراك هنا يكون بموجب التعليمات التي يعطيها الموكل الي الوكيل وليس بالمشاركة في تحرير التصرف ذاته .
أثار النيابة
آثار التصرف الذي يبرمه النائب – أي الحقوق والالتزامات التي تترتب علي هذا التصرف – يختلف حكمها بحسب تداخل ارادة النائب والاصيل علي النحو المنوه عنه آنفا , او تجاوز النائب لحدود النيابة . لكن بصفة عامة تضاف آثار التصرف إلي ذمة الأصيل . وقد نصت المادة 105 مدني علي أنه ” إذا أبرم النائب في حدود نيابته عقدا باسم الأصيل , فإن ما ينشأ عن هذا العقد من حقوق والتزامات يضاف إلي الاصيل ” .
1- العلاقة بين النائب والغير ملحوظ فيها أن النائب يتعاقد باسم الأصيل , يضاف أثر العقد إلي الأصيل . ويترتب علي ذلك أنه بعد تمام العقد لا تقوم بين النائب ومن تعاقد معه علاقة فيما يتعلق بآثار هذا العقد إلا إذا خولت له النيابة في تنفيذ العقد كما خولت له في إبرامه .
2- والعلاقة بين النائب والأصيل يحكمها المصدر الذي يحدد سلطة النائب . فإذا كانت النيابة اتفاقية كان عقد الوكالة هو الذي يحدد حقوق النائب والتزاماته قبل الأصيل . وإذا كانت النيابة قانونية تولي القانون تحديد هذه الحقوق والالتزامات .
3- وفي العلاقة بين الأصيل والغير يتجلي الأثر الذي يترتب علي النيابة . إذ تنشأ بينهما علاقة مباشرة فهما المتعاقدان , وهما اللذان تترتب في حقهما آثار التصرف . أما شخص النائب الذي أبرم العقد أو ساهم في إبرامه فانه يختفي تماما فيما يتعلق بهذه الآثار .
* يقصد بتعاقد الشخص مع نفسه بأنه العقد الذي يتم عن طريق الجمع بين صفتين في شخص واحد , بحيث يقوم هذا الشخص بدور الطرفين , فيصدر تعبيرين عن الإرادة متقابلين في شأن مصالحهما المتعارضة .
ويتحقق هذا التعاقد في صورتين :
الأولي : يكون للشخص فيها سلطة إبرام تصرف معين لحساب شخص آخر فيقوم هو نفسه ولحسابه بدور المتعاقد الآخر . فهو حينئذ متعاقد مع نفسه أصيلا عن نفسه ونائبا عن غيره . مثل ذلك أن يوكل شخص في بيع شئ فيشتريه هو لنفسه .
والثانية : نجد فيها شخصين لهما مصالح متعارضة في خصوص تصرف معين , وينوب عنهما في إبرام هذا التصرف شخص واحد . فهذا يتعاقد مع نفسه نائبا عن الطرفين . مثل ذلك أن يوكل شخص من أحد الطرفين في بيع شئ معين ويوكل من الطرف الآخر في شراء هذا الشئ , فيبرم البيع لحسابهما , أي ينوب عن البائع في البيع وينوب عن المشتري في الشراء .
ففي كلا الحالتين يبدو كأن الشخص يتعاقد مع نفسه ومن هنا جاءت التسمية .
وما أود التنويه عنه في هذا الصدد أن تنظيم تلك المسألة لن نجدها بصورة مباشرة في الفصل الثالث من الباب الثالث من القانون المدني , الذي نظم عقد الوكالة في المواد من 699 الي 717 والتي بين فيها المشرع أركان الوكالة وآثارها وانتهائها . إذ تعد هذه المواد قواعد عامة في شأن الوكالة , اما تعاقد الشخص مع نفسه فهي حالة خاصة منها تناولها المشرع بنصوص خاصة بها , وردت في مصادر الالتزام بصدد الحديث عن العقد بالباب الأول .
وقد وضع المشرع قاعدة مؤداها تحريم تعاقد الشخص مع نفسه إلا في حالات استثنائية . فقد نصت المادة 108 مدني علي أنه ” لا يجوز لشخص أن يتعاقد مع نفسه باسم من ينوب عنه سواء أكان التعاقد لحسابه هو أم لحساب شخص آخر , دون ترخيص من الأصيل . علي أنه يجوز للأصيل في هذه الحالة أن يجيز التعاقد . كل هذا مع مراعاة ما يخالفة مما يقضي به القانون او قواعد التجارة “.
فالأصل أن تعاقد الشخص مع نفسه لا يجوز . يستوي في ذلك أن يتعاقد الشخص لحساب نفسه , بأن يكون أصيلا عن نفسه ونائبا عن غيره , أو يتعاقد لحساب شخص آخر , بأن يكون نائبا عن الطرفين . وهاتان هما الصورتان اللتان يتحقق فيهما التعاقد مع النفس .
وقد طبق الشارع هذا الأصل في نصوص وردت في باب البيع . حيث نصت المادة 479 مدني علي أنه ” لا يجوز لمن ينوب عن غيره بمقتضي اتفاق أو نص أو أمر من السلطة المختصة أن يشتري بنفسه مباشرة أو بإسم مستعار ولو بطريق المزاد العلني ما نيط به بيعه بموجب هذه النيابة ما لم يكن ذلك بإذن القضاء ومع عدم الإخلال بما يكون منصوصا عليه في قوانين أخري ” . ونصت المادة 480 مدني علي أنه ” لا يجوز للسماسرة ولا للخبراء أن يشتروا الأموال المعهود إليهم في بيعها أو في تقدير قيمتها سواء أكان الشراء بأسمائهم أم باسم مستعار ” . ويلاحظ هنا أن القانون ينزل السمسار والخبير منزلة النائب لاتحاد العلة . وأضافت المادة 481 مدني أنه ” يصح العقد في الأحوال المنصوص عليها في المادتين السابقتين إذا أجازه من تم البيع لحسابه ” . كما وردت تطبيقات أخري بقانون أحكام الولاية علي المال رقم 119 لسنة 1952 بالمادة 6 , 9 , 31 , 39 .
ويرجع تحريم الشارع للتعاقد مع النفس إلي أن النائب ينفرد وحده بالتوفيق بين مصلحتين متعارضين , وهذا وضع لا تتوافر فيه الحماية الواجبة لمصلحة الأصيل . فإذا كان المتعاقد نائبا عن الطرفين نشأ تضارب في المصالح قد يؤدي إلي التضحية بصالح أحد الطرفين لفائدة الآخر . وإذا تعاقد أصيلا عن نفسه ونائبا عن الطرف الآخر كان الوضع أخطر , لأن التعارض حينئذ يقوم بين مصلحة النائب الشخصية ومصلحة الأصيل . وحين تكون النيابة اتفاقية فان مثل هذا التعاقد يجاوز تقدير الأصيل حين ينيب وكيلا عنه . فإذا تعاقد الشخص مع نفسه كان تصرفه غير نافذ في حق الأصيل , وذلك علي أساس أن تعاقده علي هذا النحو يعتبر تجاوزا لحدود النيابة , فيما خلا الحالتين المنوه عنهما في المادة 108 مدني لانهما يعدان استثناء علي هذا الأصل .
س : إذا كانت النيابة اتفاقية ورخص الموكل للوكيل في البيع لنفسه وللغير , هل يعتبر العقد نافذا في مواجهة الأصيل بمجرد التوقيع علي العقد ؟
ج : يعتقد الكثير من العامة أن التوكيل إذا كان يبيح البيع لنفسه وللغير , فإن تعاقد الوكيل مع نفسه يجعل العقد نافذا في مواجهة الاصيل بطريقة آليه , إلا أن الأمر ليس بهذه البساطة , ذلك أن المادة 705 من القانون المدني نصت علي أنه ” علي الوكيل أن يوافي الموكل بالمعلومات الضرورية عما وصل اليه في تنفيذ الوكالة , وأن يقدم له حساب عنها ” . كما نصت المادة 706 مدني علي أنه ” ليس للوكيل أن يستعمل مال الموكل لصالح نفسه ” . بل ويلزم بالفوائد أيضا وفقا للفقرة الثانية من ذات المادة . ومن ناحية أخري فإن عقد البيع يلقي علي المشتري التزاما بدفع الثمن وفقا لما نصت عليه المادة 456 مدني بأنه ” يكون الثمن مستحق الوفاء في المكان الذي سلم فيه المبيع , ما لم يوجد اتفاق أو عرف يقضي بغير ذلك ” ومن ثم فلابد من دفع الثمن الي البائع وإلا جاز له ان يطالب بفسخ العقد .
مؤدي ما سبق أن الوكيل ملزم بدفع الثمن للموكل واخذ ما يفيد براءة ذمته وإلا كان البيع غير نافذ في حق الاصيل , ومن الجدير بالذكر أن النصوص التي وردت في شأن عقد الوكالة لم تميز في آثارها بين الوكالة التي تخول الوكيل التعاقد مع الغير فقط وتلك التي تخوله التعاقد مع الغير ولحساب نفسه . وإذا استولي علي الثمن لنفسه يكون مبددا وخائنا للأمانة وفقا لنص المادة 341 عقوبات بأعتبار أن عقد الوكالة من عقود الامانة .
وقد قضي تطبيقا لذلك بأن ” لما كانت الالتزامات التي يرتبها عقد الوكالة علي عاتق الوكيل هي تنفيذ الوكالة في حدودها المرسومة (المادة 703 من القانون المدني) وبذلك العناية الواجبة في تنفيذ الوكالة (المادة 704 من القانون المدني) وتقديم حساب عنها الي الموكل (المادة 705 من القانون المدني) ورد ما للموكل في يده , والالتزام الاخير هو الذي تقوم به خيانة الأمانة , ذلك أن الوكيل يرتكب هذه الجريمة اذا اعتدي علي ملكية الاشياء التي سلمت له بصفته وكيلا لكي يستعملها في مصلحة موكله ولحسابه أو لكي يسلمها للموكل فيما بعد , ويعني ذلك ان فعله يجب أن يتخذ صورة الاستيلاء علي الشئ الذي اؤتمن عليه لحساب موكله , اما اذا اخل بالتزام اخر تولد عن الوكالة ولو يكن متضمنا هذا الاستيلاء فهو لا يرتكب خيانة الامانة , كما لو تقاعس عن القيام بالعمل الذي كلف به ولو كان دافعه الي ذلك الاضرار بموكله , او لم يبذل فيه القدر من العناية الذي تطلبه القانون أو لم يقدم الحساب الي موكله أو جاوز نطاق وكالته . لما كان ذلك وكانت الواقعة علي الصورة التي اعتنقها الحكم المطعون فيه لم تتضمن ان الطاعن تسلم أموالا ما بمقتضي عقود الوكالة التي ابرمها مع المدعيين بالحقوق المدنية ثم عبث بملكيتها , وان ما وقع منه هو تجاوز لحدود وكالته مما ينهار به الركن المادي لجريمة التبديد وتظل حقيقة العلاقة بين الطاعن والمطعون ضدهم علاقة مدنية بحتة فإن الحكم المطعون فيه اذ دان الطاعن بجريمة خيانة الأمانة يكون قد اخطأ في تطبيق القانون بما يوجب نقضه والحكم ببراءة الطاعن مما اسند اليه ” .
الطعن رقم 32750 لسنة 73 ق بتاريخ 30/9/2004