اثر الزواج في اثبات النسب
يفرق الفقهاء بين أسباب النسب، وبين أدلة ثبوته، ويجعلون للنسب سببين هما: النكاح والاستيلاء.
أما أدلة ثبوت النسب فهي: الفراش، والقيافة، والإقرار، والبينة، وحكم القاضي. وسوف نخصص للنكاح مطلباً، ولأدلة ثبوت النسب مطلباً آخر، أما السبب الثاني من أسباب النسب فلن نتعرض له في هذا البحث؛ لأنه خاص بالإماء، فهو تصيير الأمة أم ولد، يقال: استولد فلان جاريته: إن صيرها أم ولده، ولا يثبت نسب الولد إلا إذا أقر السيد بالوطء – عند الجمهور – خلافاً للحنفية الذين اشترطوا إقرار السيد بأن الولد منه. ثم نفرد مطلباً ثالثاً لنفي النسب.
المطلب الأول: النكاح:
نعرض في هذا المطلب حكم النكاح الصحيح، والنكاح الفاسد، والوطء بشبهة، وأثر كل منها في إثبات النسب.
أولاً: النكاح الصحيح:
اختلف الفقهاء في تعريف النكاح، فعند الحنفية أنه: عقد يفيد ملك المتعة قصداً [1]. وعند المالكية: عقد لحل تمتع بأنثى غير محرم.. بصيغة [2]. وقال الشافعية: النكاح عقد يتضمن إباحة وطء بلفظ إنكاح أو تزويج أو ترجمته [3]. وبمثله جاء التعريف عند الحنابلة[4].
واختلف الفقهاء في أركان النكاح الصحيح: فذهب الحنفية إلى أن ركن النكاح هو الإيجاب فقط [5]. ويرى المالكية أن أركانه ثلاثة: الولي، والمحل (الزوج والزوجة)، والصيغة[6]. أما الشافعية فيرون أن أركان النكاح خمسة: الصيغة، والزوج، والزوجة، والشاهدان، والولي [7]. وعند الحنابلة أن أركان النكاح ثلاثة: الزوجان، والإيجاب، والقبول[8].
والسبب في هذا الاختلاف هو اختلافهم في المقصود بكل من الركن، والشرط، والواجب، وما يترتب على انتفاء بعضها.
فإذا استجمع النكاح أركانه وشروطه كان زواجاً صحيحاً يثبت به نسب المولود عند توافر ثلاثة شروط:
الشرط الأول: إمكان الوطء بعد العقد؛ لأن حقيقة الوطء والإنزال والتقاء ماء الرجل ببيضة المرأة لا سبيل إلى معرفتها، ولا يمكن الاطلاع عليها، فتعلق الحكم بالإمكان وإلى ذلك ذهب جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة [9]، أما الحنفية: فيكفي عندهم في إثبات النسب مجرد العقد؛ بحيث لو أتت الزوجة بولد لأدنى مدة الحمل ثبت نسبه من الزوج، ولا ينتفي إلا باللعان؛ لأن النكاح يقوم مقام الماء مادام التصور العقلي قائماً، كما لو تزوج المشرقي بمغربية ولم يلتقيا، وكما لو لم يكن الدخول ممكناً، بأن طلقها في المجلس عقب تزوجها، لقوله صلى الله عليه وسلم: «الولد للفراش»، ولم يذكر فيه اشتراط الوطء [10].
ويرى شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم: أن ثبوت النسب لا يكفي فيه مجرد العقد، ولا إمكان الدخول، بل لابد من تحقق الدخول؛ لأن العرف لا يعد المرأة فراشاً قبل البناء بها، فلا تصير فراشاً إلا بعد دخول محقق، ومجرد الإمكان قد يقطع بانتفائه عادة، فلا تصير المرأة فراشاً إلا بدخول محقق [11].
الشرط الثاني: أن يتصور الحمل من الزوج عادة؛ وذلك بأن يصل إلى سن معينة يمكنه معها الجماع أو الإنزال، قدرها الحنفية باثنتي عشرة سنة [12]، والمالكية والشافعية بتسع سنين[13]، والحنابلة بعشر سنين [14]. ثم اختلفوا فيما عدا الصغير، من نحو: الخصي والعنين والمجبوب والممسوح، فاعتمدوا على الخبرة الطبية التي كانت لديهم [15].
الشرط الثالث: أن تلده الزوجة خلال مدة الحمل، وأقلها ستة أشهر بإجماع الفقهاء، فإذا وضعت الزوجة مولودها قبل مضي ستة أشهر من الزواج فإن الولد لا يثبت نسبه من الزوج، ولا يحتاج إلى نفيه لأنه ليس منه بيقين [16]. أما أكثر مدة للحمل فقد اختلف فيها الفقهاء – بناء على الخبرة والملاحظة -: فعند الحنفية وأحمد في رواية أنها سنتان [17]. والمشهور عن مالك أن أكثر مدة للحمل خمس سنين، وعندهم قول أنها أربع سنين، وقال ابن حزم ومحمد بن الحكم إن أقصى الحمل تسعة أشهر وهي المدة المعتادة [18]. وقال الشافعية، وهو ظاهر المذهب عند الحنابلة، أن أكثر مدة الحمل أربع سنين [19]. فإذا جاءت المتوفى عنها زوجها أو المطلقة طلاقاً بائناً بولد لسنتين فأقل ثبت نسبة من المتوفى أو المطلق عند الجميع، ما لم تتزوج خلال هذه المدة، إلا على رأي الظاهرية ومحمد بن الحكم المالكي. فإذا ولدت بعد السنتين لا يثبت النسب عند الظاهرية، وابن عبدالحكم، والحنفية، ويثبت عند الشافعية والحنابلة وبعض المالكية إن ولد لأربع سنين، وفي المشهور عن مالك: يثبت النسب إذا ولدت لخمس سنين، كما تقدم.
ومع التطور الطبي الحديث: قرر الأطباء أن الطفل الذي يولد قبل تمام الشهر السادس لا يكون قابلاً للحياة [20]. وأن الحمل المعتاد يستمر ما بين الأسبوعين التاسع والثلاثين والحادي والأربعين، فإذا تأخر إلى الأسبوع الثاني والأربعين أصبح الجنين في خطر؛ لأن الجنين يعتمد في غذائه على المشيمة، فإذا بلغ الحمل تسعة أشهر ضعفت المشيمة ولم تعد قادرة على إمداده بالغذاء الذي يحتاجه لاستمرار غذائه، فإن طالت المدة – ولم تحصل الولادة – مات الجنين داخل الرحم [21].
ونحن نرى: أن تحديد أقل وأكثر مدة للحمل ينبغي أن يعتمد على الحقائق الطبية المؤيدة بالأجهزة الدقيقة والتحاليل المختبرية، وليس على الروايات والشائعات والظنون. وعلى ذلك: لا يجوز أن تقل مدة الحمل عن ستة أشهر [22]، ولا تزيد عن سنة قمرية [23]، وفي غير ذلك تخضع المرأة لفحص دقيق يستوعب الحالات الشاذة.
ثانياً: النكاح الفاسد:
هو العقد الذي فقد شرطاً من شروط انعقاده أو صحته التي اختلف فيها الفقهاء، كالنكاح بدون ولي عند غير الحنفية، والنكاح بغير شهود عند غير المالكية، وهذا العقد غير صحيح ولا يترتب عليه بذاته أثر شرعي إلا إذا أعقبه دخول، فإن أعقبه دخول ترتب عليه بعض الآثار، مثل: وجوب المهر، ووجوب العدة، وحرمة المصاهرة، وقد اتفق الفقهاء على أن النسب يثبت بالزواج الفاسد؛ لأن النسب مما يحتاط في إثباته لحق الولد في النسب، وإحياء له، ولعدم تضييعه، وذلك إذا توافرت الشروط الثلاثة التي لابد منها لثبوت النسب بالزواج الصحيح [24].
ثالثاً: الوطء بشبهة:
المقصود بذلك: الوطء غلطاً فيمن تحل له في المستقبل ولا يوجب الحد [25]، كمن جامع مطلقته البائن في العدة ظاناً أن هذا من حقه، وكمن جامع امرأة زفت إليه على أنها زوجته ثم ظهر أنها غير ذلك.
ويرى جمهور الفقهاء أن الولد الناجم عن هذا الوطء يثبت نسبه من الواطئ؛ لأن الجهل بالحرمة يؤدي إلى درء الحد، والشبهة التي تؤدي إلى درء الحد يثبت بها النسب [26]، وذلك على التفصيل الآتي [27]:
1- شبهة في الفاعل: مثل وطء أجنبية يظنها امرأته ثم تبين غير ذلك، يدرأ عنه الحد لوجود الشبهة، ويثبت نسب الولد إليه.
2- شبهة في المحل: وتتحقق بقيام الدليل النافي للحرمة في ذاته، ولا تتوقف على ظن الجاني واعتقاده، كوطء المطلقة طلاقاً بالكنايات؛ لاختلاف الصحابة فيه، فمذهب عمر > أنها تكون رجعية، ويرى علي رضي الله عنه أنها بائن «والنسب يثبت في شبهة المحل إذا ادعى الولد؛ لأن الفعل لما لم يكن زنى بشبهة في المحل نسب الولد بالدعوى؛ لأن النسب مما يحتاط فيه»[28].
3- شبهة اختلاف الفقهاء (شبهة الطريق): ويقصد بها الاشتباه في حكم الفعل من حيث الحل والحرمة لاختلاف الفقهاء. وذلك: كالنكاح بلا ولي – عند غير الحنفية -، والنكاح بلا شهود – عند غير المالكية -، فالوطء في هذه الأنكحة المختلف على صحتها لا يعتبر زنى ولا يحد عليه؛ لأن الاختلاف أورث شبهة تدرأ الحد، ومن ثم يثبت نسب المولود من الواطئ متى توافرت الشروط الثلاثة التي لا بد منها لثبوت النسب في الزواج الصحيح[29].
[1] فتح القدير لابن الهمام: 3/ 99. حاشية ابن عابدين: 2/ 258.
[2] الشرح الصغير للدردير: 2/ 332.
[3] مغني المحتاج: 3/ 123. نهاية المحتاج: 6/ 174.
[4] كشاف القناع: 5/ 5.
[5] بدائع الصنائع: 2/ 229.
[6] الشرح الصغير: 2/ 334.
[7] مغني المحتاج: 3/ 139.
[8] كشاف القناع: 5/ 37.
[9] حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 2/ 460. نهاية المحتاج للرملي: 7/ 128. المغني لابن قدامة: 8/ 64.
[10] المبسوط: 17/ 99. بدائع الصنائع: 6/ 243. حاشية ابن عابدين: 3/ 547.
[11] مجموع الفتاوى: 5/ 508. زاد المعاد: 4/ 161.
[12] الفتاوى الهندية: 5/ 61. بدائع الصنائع: 3/ 1546.
[13] حاشية الدسوقي: 2/ 460. روضة الطالبين: 8/ 357.
[14] المغني: 7/ 427. كشاف القناع: 5/ 407.
[15] لتفصيل الأقوال: حاشية ابن عابدين: 4/ 465. المدونة: 2/ 445. حاشيتا قليوبي وعميرة: 4/ 5. المغني: 7/ 480.
[16] فتح القدير: 3/ 311. الخرشي على خليل: 4/ 126. المهذب: 4/ 444. الإفصاح لابن هبيرة: 2/ 177. تحفة المودود: ص216.
[17] حاشية ابن عابدين: 2/ 632. المغني: 7/ 477.
[18] بداية المجتهد: 2/ 252. حاشية الدسوقي: 2/ 460. المحلى: 10/ 316.
[19] روضة الطالبين: 2/ 141-142. المغني: 7/ 477، 483.
[20] الموسوعة الطبية الفقهية لأحمد كنعان، ص: 375.
[21] المرجع السابق: ص376.
[22] وعليه إجماع الفقهاء: المبسوط: 5/ 44. الكافي لابن قدامة: 3/ 293.
[23] وقال به: محمد بن عبدالحكم، وهو منسوب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ووافقه الأكثرون، منهم: مالك، والشافعي في القديم، وأحمد بداية المجتهد: 5/ 438- زاد المعاد: 4/ 299.
[24] المبسوط: 17/ 55. منح الجليل: 3/ 308. أسنى المطالب: 3/ 185. المغني: 7/ 10. مجموع الفتاوى: 3/ 326. المحلى: 12/ 201.
[25] حاشية الدسوقي: 2/ 252. نهاية المحتاج: 7/ 120. المغني: 10/ 359.
[26] المدونة: 2/ 533. نهاية المحتاج: 7/ 178. المغني: 8/ 66.
[27] حاشية ابن عابدين: 3/ 150. حاشية الدسوقي: 2/ 317. حاشيتا قليوبي وعميرة: 4/ 180. كشاف القناع: 4/ 85.
[28] البناية للعيني، شرح الهداية: 5/ 393-394.
[29] تبيين الحقائق للزيلعي: 3/ 179-180. الفروق للقرافي: 4/ 172. حاشيتا قليوبي وعميرة: 4/ 180. كشاف القناع: 4/ 85.