الخلوة الصحيحة كأحد شروط وجوب العدة في الشريعة الاسلامية
من حكمة شرعنا الحنيف أنه إذا وقع الانفصال بين الزوجين لسبب ما، فإن المرأة يجب عليها أن تعتد من تاريخ انفصالها عن الزوج، فلا يجوز لها أن تتزوج من غير مُطَلِّقها قبل انتهاء عدتها، وكأنها تهيئة فرصة للمطلقين لإعادة الحياة الزوجية عن طريق المراجعة.
ومن أهم الأسباب التى فُرضت العدة من أجلها هو استبراء رحم المرأة، وذلك بتيقن عدم وجود حمل من مطلقها أو زوجها الذى توفى عنها حتى لا تختلط الأنساب، لأنها لو تزوجت وكانت حاملًا، وكان الحمل فى بدايته، فسيُنسب المولود إلى زوجها الذى تزوجت به ثانيًا مع أنه لزوجها السابق، وهذا يناقض مقاصد شرعنا الحنيف الذى جاء ليحفظ الأنساب والأعراض، أما إن كان الحمل ظاهرًا لمرور عدة أشهر عليه مثلًا، فمع كون الحمل حالئذٍ معلوم النسب، إلا أن وجوده فى الرحم يوجب صيانة الرحم وعدم إدخال ماء لغير والده عليه، ومخالفة ذلك توجب لعنة الله، فقدر رُوى عن النبى، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسقِ ماءه زرع غيره».
والعدة الواجبة على المرأة بالانفصال هى ثلاثة أشهر إن كانت من طلاق وكانت المرأة لا تحيض، كمن تجاوزت سن الحيض وأصبحت من الآيسات، وإن كانت تحيض فعدتها ثلاث حيضات، أما إن كانت المرأة تعتد لوفاة زوجها فعدتها أربعة أشهر وعشرة أيام، وإن كانت المعتدة حاملًا فعدتها على الراجح ما بقى من مدة الحمل طالت أم قصرت، لقول الله تعالى: «وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا»، وهناك بعض الفقهاء يرى أن عدتها بأبعد الأجلين «الولادة أو المدة المتبقية»، فإذا ولدت أو أُجهض حملها وثبت خلو الرحم من أجنة أخرى انتهت عدتها وحلت للأزواج.
وهذه الأحكام مستقرة فى الفقه الإسلامى، كما أنه لا خلاف بين الفقهاء فى أن عدة الطلاق الرجعى، وهى التى تكون بعد الطلقة الأولى أو الثانية، لا تمنع استئناف الزوجية بين المطلق ومطلقته، حيث يملك المطلق رد مطلقته إلى عصمته مادامت لم تنته عدتها، ولا يحتاج الأمر عندئذ إلى إجراءات جديدة كعقد جديد ودفع مهر جديد، وإنما على الزوج أن يُعلم الناس بأنه رد زوجته إلى عصمته، وعليه أن يوثق ذلك إثباتًا للحقوق، وليتذكر أنه طلق زوجته طلقة واحدة إن كانت الأولى، أو طلقتين إن كانت الثانية، ليحتاط كل الحيطة من إيقاع طلاق ثالث يُنهى فرص العيش فى كنف الزوجية، ولا خلاف بين الفقهاء أيضًا فى صحة زواج المطلق لمطلقته بعد انتهاء عدتها من الطلاق الرجعى، ولكنه فى هذه الحال يلزمه أن توافق المرأة على الزواج به، شأنه شأن غيره من الرجال، كما يلزمه أن يعقد عليها عقدًا جديدًا ويثبت لها مهرًا جديدًا.
ومن الأمور المجمع عليها بين الفقهاء أن الطلاق إن وقع قبل الدخول من دون خلوة صحيحة، فإن المطلقة تستحق نصف المهر المسمى فقط، لقول الله تعالى: «وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ»، فإن لم يكن سُمى لها مهرًا، فمتعة يتفق عليها أو تقدر عند الخلاف، وذلك لقوله تعالى: «لَّا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ»، أما إن ثبت أن الزوج اختلى بالمرأة المطلقة قبل الدخول، فيرى جمهور الفقهاء أنه يجب عليها أن تعتد كما لو كان دخل بها، واستدلوا على ذلك بأدلة منها ما رواه الإمام أحمد والأثرم بإسنادهما، عن زرارة بن أوفى قال: «قضى الخلفاء الراشدون المهديون أن مَن أغلق بابًا، أو أرخى سترًا، فقد وجب المهر، ووجبت العدة»، وقد تناولت فى مقالة سابقة آراء الفقهاء فى مسألة استحقاق المهر كاملًا بالخلوة الصحيحة، واخترت عدم وجوب تمام المهر بهذه الخلوة ما لم تكن فى بيت الزوجية، أو كانت فى غيره وحدث فيها دخول أو محاولة دخول.
وهنا أيضًا فى مسألة وجوب العدة بالخلوة الصحيحة التى عرفها الفقهاء بأنها تتحقق متى أُغلقت الأبواب وأُرخيت الستور وأَمِنَ كل منهما اطلاع غيرهما أو دخوله عليهما، لا أرى أن تلك الخلوة توجب العدة؛ لأنها إن لم توجب المهر الذى هو أمر مالى يمكن أن يستند إلى اعتبارات أخرى معنوية ونفسية، غير مسألة الاستمتاع، كتعويض المرأة ورفع الآثار النفسية السلبية المترتبة على الطلاق، فإن هذه الاعتبارات غير موجودة فى مسألة العدة، لأن العدة وإن كانت تجب لبعض أمور منها احترام عقد زوجية المطلق، إلا أن موجبها الرئيسى هو استبراء الرحم والتأكد من أن المطلقة ليست حاملًا حتى لا تختلط الأنساب، ولا يُتصور بحال أن خلوة لم يقترب الزوج فيها من زوجته تحتمل وجود حمل بالرحم حتى نستبرئه بالعدة، ومن ثم يكون إيجاب العدة على المطلقة نوعًا من العقاب بلا جريرة ارتكبتها، لأنها ستُمنع من الزواج خلال عدتها، فى حين أن مطلقها يمكنه أن يتزوج بأخرى فى مجلس الطلاق، وهذا من الإجحاف بالمرأة بلا سبب، فما فعلت إلا أنها اختلت بزوجها ربما للتشاور فى حياتهما المستقبلية ولم يكن ثمة نية للدخول أو محاولة الدخول أصلًا، ودليلنا على ذلك قول الله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا». أما إن حدث بين المعقود قرانهما محاولة دخول وتلاقت الأجساد بما يحتمل معه حدوث حمل، حيث ثبت علميًّا وطبيًّا أن الحمل يمكن أن يحدث ولو لم يكن الدخول مكتملًا، فإنه فى هذه الحال يجب على المطلقة أن تعتد، لوجود الاحتمال الموجب للاستبراء.
والقول بوجوب العدة مطلقًا من غير نظر إلى طبيعة هذه الخلوة وما إذا كان هناك دخول أو محاولة دخول، يرده النص القرآنى السابق، وأما الاستدلال بقوله تعالى: «وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ»، فهو استدلال مردود عليه بأن الإفضاء هنا هو المباشرة، فقد قال ابن عباس فى تفسير الآية: «الإفضاء: الجماع، ولكن الله يكنى». ومن ثم، يكون مراد جمهور الفقهاء بالخلوة الصحيحة التى توجب العدة عندهم، هو ما فسرت به الخلوة من أنها الخلوة التى حدث فيها دخول أو محاولة دخول، فلا يُتصور- حاشا لله- غفلتهم عن النص القرآنى، ولا يُتصور أيضًا أنهم يتركون العمل بمنطوقه الصريح، ويقوى ما ذكرته من عدم وجوب العدة بالخلوة مطلقًا أن بعضًا من فقهاء السلف كالإمام مالك فى قول، والإمام الشافعى فى الجديد، لم يوجبوا العدة بهذه الخلوة، كما لم يوجبوا بها تمام المهر، وإنما نصفه فقط.
وخلاصة القول عندى أن المهر كاملًا والعدة- كأثرين من الآثار المترتبة على الخلوة الصحيحة- غير واجبين، فإن طُلقت المرأة بعدها فالواجب نصف المهر، وذلك للطلاق قبل الدخول، ولا عدة تعتدها المرأة فى هذه الحال، ويمكنها الزواج على الفور؛ وذلك لأن الموجب لتمام المهر والعدة أيضًا هو الدخول التام أو محاولة الدخول التى يُحتمل معها حدوث حمل، ولو كان احتمالًا ضعيفًا، وذلك من باب الاحتياط.