المسؤولية الجنائية عن الجرائم المادية.
مفهوم الجرائم المادية
الجرائم المادية هي الجرائم التّي تقوم بمجرّد ارتكاب الفعل المادي المكوّن للجريمة وإسناده إلى مرتكبها دون الحاجة إلى إثبات خطأ الجاني بالمفهوم الواسع للخطأ ( الخطأ العمدي والخطأ غير العمدي) ،وهكذا تقوم المسؤولية عن هذه الجرائم بتحقق الركن المادي لها فقط .
لقد كان لمحكمة النقض الفرنسية دورٌ بارز في بلورة فكرة الجريمة المادية فمنذ أوائل القرن التاسع عشر قضت في العديد من قراراتها بأن المخالفات وبعض الجنح البسيطة تعد جرائم مادية تقع بمجرد إثبات صدور الركن المادي للجريمة من الجاني دون الحاجة إلى إثبات الركن المعنوي في حقه.فمثلاً إذا أثبت محضر الشرطة أن قائد السيارة قد اخترق إشارة المرور الحمراء توافرت المسؤولية الجنائية للمخالف دون حاجة إلى إثبات الخطأ العمدي أو الخطأ غير العمدي لديه.
ثم اتسع نطاق تلك الجرائم ليشمل إلى جانب المخالفات العديد من الجرائم الاقتصادية والجرائم الماسة بأمن الدولة والجرائم المتعلقة بقوانين العمل و قوانين المرور .
وعلى هدي مما تقدم فقد ذهب جانب من الفقه إلى القول بأن هذا النوع من الجرائم يعد خرقاً لقاعدة لا مسؤولية جنائية بدون خطأ ، فالمسؤولية تتحقق فيها من دون إسناد أي خطأ لمرتكبها، ومع ذلك يذهب جانب آخر من الفقه أن مرتكب الجريمة المادية يسند إليه خطاً مفترضاً ، وبالتالي فإن الجرائم المادية لا تعد خروجاً على مبدأ لا جريمة بدون خطأ. وبموجب الرأي الأخير فإن المشرع يقيم قرينة على خطأ مرتكب الجريمة المادية ، وعلى المتهم إثبات براءته من خلال إثبات عدم خطأه
خطأ مرتكب الجريمة المادية ، وعلى المتهم إثبات براءته من خلال إثبات عدم خطأه ،وهي نتيجة معكوسة لقرينة البراءة التي تفترض بأن المتهم بريء حتى تثبت إدانته ، فعبء الإثبات سينتقل من عاتق الادعاء العام ، إلى عاتق المتهم الذي عليه إثبات براءته مما نسب إليه من خطأ.
أساس المسؤولية عن الجرائم المادية
أساس المسؤولية عن الجرائم المادية
انقسم الفقه الجنائي بصدد الأساس الذي تستند إليه هذه الجرائم ، فمنهم من أسسها على عدم اشتراط الإثم الجنائي في هذه الجرائم،وذلك بناءً على أن هذا الإثم مقصود على جرائم العدوان وانتهاك القيم والحرمات دون سواها ، وإنه غير مطلوب بل وغير متصور في الجرائم القانونية الصرفة التي لا تخرج من حيث طبيعتها عن معنى المخالفات لأوامر القانون ونواهيه ،
وإنه يكتفى لمسؤولية الجاني عن هذا النوع من الجرائم أن تتوافر لديه الأهلية الجنائية التي تقوم على الإدراك وحرية الاختيار،لا بل أن العميد هوريو قد نادى برأي متطرف مفادها إلى أن الجريمة المادية هي جريمة موضوعية يعاقب عليها الجاني بناءً على فعله المادي لا بناءً على رابطة معنوية بينه وبين الفعل،وعن ذلك يقول بأنه إذا سقطت زهرة من أحدى النوافذ في الطريق العام فإن المخالفة تقع في حق صاحب آنية الزهور ولو لم تتجه إرادته إلى ذلك.
وذهب جانبٌ آخر إلى تأسيسها بالاستناد إلى الخطأ الذي يتضمنه الفعل المادي ، فقالو أن الخطأ يتوافر في حق المخالف بمجرد مخالفته للقانون ،إذ أن ارتكاب ذلك الفعل ينطوي في حد ذاته على الخطأ بالنسبة للمخالف، أي أنه كلما ثبت وقوع الفعل المادي المكون للمخالفة ثبت أيضاً خطأ المخالف..
في حين ذهب جانبٌ ثالث إلى تأسيسها على أساس الخطأ المفترض ،فالمشرع يقيم قرينة قاطعة على توافر خطأ المخالف بمجرد ارتكابه للفعل المكون للمخالفة.
وذهب فريق رابع إلى أن أساس المسؤولية الجنائية عن الجرائم المادية هو الخطأ الثابت، ويذهب هذا الفريق إلى ضرورة ثبوت الخطأ الشخصي بحق الجاني وفقاًً للقواعد العامة ، وإن الجرائم المادية يقيم فيها المشرع قرينة بسيطة على توافر الخطأ ، وإنه يجوز إثبات عكس هذه القرينة ،واستدل هذا الرأي بما ذهب إليه القضاء منت جواز نفي الجريمة عن طريق إثبات أن الجاني قد وقع في غلط لا يمكن تجنبه ، فهذا الغلط يتجاوز إمكانية الإدراك لدى الإنسان البالغ الحذر ، مما ينفي عنه الخطأ.
وبتقديرنا فإننا نرجح الرأي الأخير لأنه يتماشى مع أصول قانون العقوبات الحديث ،وذلك باعتبار أن المسؤولية الشخصية عن الجرائم هي التي تحقق العدالة كمحور لسياسة التجريم،على أن الاعتبارات التنظيمية التي يأخذها المشرع بعين الاعتبار في بعض الحالات قد تدفعه إلى إلقاء التزامات أكثر شدة ودقة تتفق مع واجبات الشخص البالغ الحذر ، مما يقتضي فرض المزيد من الإنتباه على المواطنين،
فلا مانع من أن يلجأ المشرع أو القضاء إلى إقامة قرينة لصالح الادعاء العام على توافر الخطأ بحق الجاني ، بشرط أن تضل هذه القرينة بسيطة ويجوز إثبات عكسها.
الجرائم المادية بين التأييد والإنكار
الجرائم المادية بين التأييد والإنكار
كما انقسم الفقه الجنائي بين مؤيد للجرائم المادية ومعارض لها ،وانقسم المؤيدون إلى فريقين فمنهم من اسند إلى اعتبارات تاريخية ، بقولهم إن الجرائم في الماضي كان يكفي لارتكابها نسبة الفعل إلى الفاعل دون اشتراط ارتكابه لخطأ ما سواء كان عمدياً أم غير عمدي ،فالركن المعنوي لم يكن له أهمية لقيام المسؤولية الجنائية ، فالمسؤولية كانت تقام حتى بحق فاقدي الأهلية لا بل وحتى بحق الحيوانات ، وبالتالي فإنه من باب أولى قيام هذه المسؤولية بحق الإنسان البالغ العاقل الذي نسب إليه الفعل مع افتراض الخطأ بحق.
لقد تعرض هذا الرأي لانتقادات قوية إذ أن الركن المعنوي أصبح له أهمية كبيرة في ضل السياسة الجنائية الحديثة ولا يمكن الاستناد لأسباب تاريخية محضه لقيام المسؤولية الجنائية .
أما الفريق الثاني من المؤيدين فقد استند إلى الاعتبارات العملية ،فقالوا أن صعوبة إثبات الركن المعنوي في بعض الجرائم وخاصة الجرائم ذات الطبيعة الاقتصادية تستلزم بالضرورة افتراض الخطأ بحق مرتكب الفعل ،إذ أن من شأن ذلك الافتراض تخفيف العبء عن كاهل المحاكم الجنائية ، لأن عبء الإثبات سيلقى على عاتق المتهم.
وقد أسهب هذا الفريق في تقديم الحجج والمبررات التي تدعم رأيه بقولهم إن هذا الافتراض سيسهم في تحقيق الردع العام والردع الخاص عندما سيعلم مرتكب الجريمة المادية والجمهور بأن أحد الأشخاص قد أُدين لمجرد ارتكابه الفعل المحظور ،وقالوا أن من شأن ذلك الارتقاء بمستوى العناية والحفاظ على الصالح العام، و تفادي الدفوع غير الجدية التي كثيراً ما يتفنن في اختلاقها المتهمون.
إلا أن هذا الفرق أيضاً لم يَنْجُ من سهام النقد، مما دفع فريق ثالث إلى تبرير المسؤولية الجنائية عن الجرائم المادية بالإستناد إلى الاعتبارات القانونية ، فقالو أن أساس تلك المسؤولية هي إرادة المشرع ، فالمشرع هو من يقرر التصرفات التي تعد جريمة ، وهو الذي يقرر الجرائم التي تستلزم الخطأ والجرائم التي يفترض فيها الخطأ وبالتالي فلابد من احترام إرادة المشرع .
وقد قدم هذا الفريق العديد من الحجج التي تدعم رأيه بالقول إن نسبة الجرائم المادية التي يفترض فيها المشرع الخطأ يعد ضئيل جداً بالنسبة الى مجل الجرائم.وإن هذا الافتراض تقتضيه الطبيعة الخاصة لجرائم المسئولية بدون خطأ، كما إن اعتبارات السياسة الجنائية الحديثة التي تحاول أن تواكب التطورات الاقتصادية والتي بدأت تنحو إلى معاقبة الرأس المدبر للجريمة وليس فقط من نفذ مادياتها تستوجب التسليم بضرورة الجرائم المادية في التشريعات الجنائية الحديثة.
لابل أن جانب من هذا الفريق قد ذهب إلى أبعد من ذلك فحاول تبرير تلك الجرائم بالاستناد إلى أن المسؤولية في القانون المدني تقوم دون الحاجة إلى نسبة الخطأ إلى مرتكب الفعل الذي أنشأ ضرراً ، وبالتالي فيمكن استعارة تلك الفكرة من القانون المدني ومدها إلى القانون الجنائي.
وبالرغم من تعدد الحجج التي أستند إليها المؤيدون لتبرير قيام المسؤولية الجنائية في بعض الجرائم بمجرد تحقق الركن المادي فيها ،إلا أن هنالك جانب آخر من الفقه قد عارض فكرة الجريمة المادية مهما كان الأساس الذي أستندت إليه ، وقد برروا مناهضتهم لما لتلك الجرائم من مثالب القانونية ، فهي تناهض المبادئ القانونية التقليدية التي تستلزم توفر الركنين المادي والمعنوي كحد أدنى لقيام الجريمة، وإنها تخالف قرينة البراءة التي ناضلت البشرية طويلاً حتى تم إقرارها ،
وقالوا بأن تلك الجرائم تنافي مع أغراض العقاب الحديثة والمتمثلة في إصلاح الجاني وليس الردع ، فالإصلاح يكون للمخطأ ،فإذا لم يكن الشخص مخطئاً فلماذا يعاقب، فالقائم بالفعل لم يرتكب خطاً لكي يتم إصلاحه عن طريق العقوبة .
وهكذا فإن الإقرار بتلك الجرائم له مثالب اجتماعية وأخلاقية ، كونه يؤدي إلى سقوط هيبة القانون، فالقانون العقابي لكي يحترم يجب أن يشعر عامة الناس بأنه قانون يستند إلى قواعد أخلاقية ويحقق مباديء العدالة ،قانون يعاقب من يسيء ويخطأ .فإذا توسع المشرع في نطاق التجريم ليشمل من لم يخطأ ،فإن هيبته ستسقط لمناهضته للقواعد الأخلاقية ومجافاته العدالة .
وهكذا فقد أنتقد المناهضون تضمين التشريعات العقابية مثل هذه الجرائم ، وقالوا بإمكانية اللجوء إلى أساليب مدنية وإدارية،لمجازاة من يقوم بمثل تلك الأفعال لردع من يرتكبها ، من دون اللجوء إلى العقاب الجنائي الذي سيؤدي إلى وصم مرتكب الجريمة المادية بوصمة المجرم من دون أن يقترف أي خطأ.