بحث حول الأساس الذي يستمد منه العرف قوته الملزمة
تمهيد :
متى اجتمع للعرف ركناه المادي والمعنوي أصبح قاعدة قانونية ملزمة يتعين على الأفراد العمل بمقتضاها، وقد اختلفت آراء الفقهاء حول تحديد الأساس الذي يستمد منه العرف قوته الملزمة بحيث يعتبر مصدرا رسمياً من مصادر القانون.
ويمكن إجمال أهم هذه الآراء على النحو التالي : –
أولاً : تأسيس القوة الملزمة للعرف على الإرادة الضمنية للسلطة العامة : –
ذهب رأي قديم في الفقه الفرنسي إلى القول بأن القوة الملزمة للعرف يمكن تأسيسها على الإرادة الضمنية للسلطة العامة في الدولة، فإذا كان التشريع يستمد قوته الملزمة من خلال الإرادة الصريحة لهذه السلطة، فإن لعرف يستمد هذه القوة الملزمة من خلال إرادتها الضمنية المتمثلة في إقرارها للعرف وتكفلها باحترامه.
والحقيقة أن أنصار هذه الفكرة ينتمون إلى المدرسة الشكلية في تأسيس القانون التي لم يعد لها وجود في وقتنا الحاضر، هذه المدرسة التي كانت تنظر إلى القانون على أنه نابع عن إرادة الدولة، فالقانون— في نظرهم— لا يمكن أن ينشأ أو يكتسب صفة الإلزام إلا إذا اعتمدته السلطة العامة في الدولة .
ومن هنا كان تبريرهم وجود العرف وقوته الملزمة من الإرادة الضمنية للسلطة العامة التي تستخلص من مجرد عدم الاعتراض على العرف وكفالة احترامه.
وقد تعرضت فكرة تأسيس القوة الملزمة للعرف على إرادة السلطة العامة إلى النقد من وجهتين :
أولهما- أن هذه الفكرة تتجاهل حقيقة تاريخية مفادها أن العرف يسبق التشريع في الوجود، فهو أول المصادر القانونية التي حكمت المجتمعات البدائية بما يؤكد كونه مصدراً مستقلا عن التشريع، ولا شك في أن هذا الأمر يجعلنا نتصور إمكانية وجوده دون إقرار المشرع له أو رضائه به .
وقد احسن جانب من الفقه المصري التعبير عن هذا النقد بالقول بأنه : –
” إذا قلنا أن العرف يستمد قوته الملزمة من الرضاء الضمني للسلطة التشريعية، فمن أين كان يستمد تلك القوة قبل أن توجد هذه السلطة ؟ ”
ثانيهما- تقوم هذه الفكرة على الخلط بين النشريع والعرف بما لا يسمح بإمكانية رسم الحدود الفاصلة بينهما، فالتشريع عبارة عن قواعد مكتوبة تصدرها السلطة المختصة في الدولة في الوقت الذي يريده ، في حين أن العرف يتكون بالتدريج من اعتياد الناس على اتباع سلوك معين والشعور بكونه يشكل قاعدة ملزمة.
ثانياً: تأسيس القوة الملزمة للعرف على أحكام القضاء :-
يذهب أنصار هذه الفكرة إلى القول بأن العرف يستمد قوته الإلزامية من أحكام القضاء ، فالقاضي حينما يعرض أمامه نزاع معين فإنه يستطيع من خلاله أن يكشف عن وجود العرف ويحدد مضمونه، ومعنى ذلك أنه لا يتكون إلا بعد حكم القضاء به، فبحكم القضاء يستمد العرف قوته الملزمة.
وقد ظهرت هذه الفكرة وانتشرت في بادئ الأمر بين فقهاء القانون الإنجليزي حيث نظام السوابق القضائية يلعب دورأ هاماً في إبراز القواعد العرفية وإكسابها القوة الملزمة، ثم انتقلت بعد ذلك إلى فرنسا لتجد بعض مؤيديها من الفقهاء الفرنسيين .
وعلى الرغم من أننا لا ننكر الدور الهام الذي يلعبه القضاء في تحديد العرف وتوضيحه،
إلا أننا لا يمكن أن نجزم بتأسيس القوة الملزمة للعرف على أحكام القضاء ، وذلك لسببين رئيسيين : –
أولهما- من المتعارف عليه أن العرف، باعتباره أحد مصادر القاعدة القانونية، ينشأ ويستقر ويكتسب قوته الملزمة قبل أن تطبقه المحاكم، وإلا كيف يتسنى لنا القول بأن القضاء يطبقه قبل أن يصير قانونا ؟ .
ثانيهما- إن القول بتأسيس القوة الملزمة للعرف على أحكام القضاء يغفل مبدأ الفصل بين السلطات، فطبقاًً لهذا المبدأ تنحصر سلطة القاضي في تطبيق القانون دون التعرض لإنشائه، وبالتالي لا يمكن الاعتماد على أحكام القضاء لتأسيس القوة الملزمة للعرف.
ثالثاً:تأسيس القوة الملزمة للعرف على الضمير الجماعي
ظهرت هذه الفكرة وتأيدت من جانب أنصار المدرسة التاريخية التي تذهب إلى أن القانون ينبع عن الحاجات الاجتماعية والتاريخية والسياسية للجماعة، وأن العرف هو صاحب الدور الرئيسي في خلق القواعد القانونية، ومن ثم فهو يستمد قوته الملزمة من ضمير الجماعة التي على أساس حاجاتها المختلفة ولد العرف.
وقد اتجه جانب من الفقه المصري إلى تأييد هذه الفكرة بالقول بأن العرف يستمد قوته الملزمة من الرضا الضمني لأفراد المجتمع، فالمجتمع-في نظرهم- هو الذي يخلق العرف ويطبقه ويتعهد باحترامه.
وعلى الرغم من اقتناع كثير من الفقهاء سواء في مصر أو فرنسا بتأسيس القوة الإلزامية للعرف على ضمير الجماعة
إلا أن هذه الفكرة تعرضت بدورها للنقد من وجهتين رئيسيتين : –
أولهما- أن الأفراد في المجتمعات الحديثة لا يقومون بأنفسهم بعمل القوانين، وإنما يتنازلوا عن هذا العمل إلى هيئة خاصة هي الهيئة التشريعية التي يمنحها الدستور هذا الحق، وبالتالي لا يمكن القول بأن الجماعة هي التي تقوم بنفسها بخلق القواعد القانونية.
ثانيهما- أن تأسيس إلزام العرف على الضمير الجماعي لا يفيد أو يقدم كثيرأ، نظرأ لما يحيط فكرة الضمير الجماعي من غموض وإبهام يجعل وجود هذا الضمير محل شك.
رابعاً : تأسيس القوة الملزمة للعرف على قوته الذاتية :
نطلق أنصار هذا رأي الأخير من رفضهم لتأسيس القوة الملزمة للعرف على إرادة المشرع، أو على أحكام القضاء ، أو حتى على فكرة الضمير الجماعي، وإنما يتجهون إلى القول بأن للعرف قوة إلزام ذاتية تنبع من العادات التي يسير عليها الأفراد في سلوكهم، ومن الضرورات الاجتماعية التي تفرض ظهور العرف عندما لا يوجد تشريع، كما كان عليه الحال في المجتمعات القديمة، أو عندما يوجد نقص في النشريع، مثلما عليه الحال في المجتمعات المعاصرة.
وقد رفض أنصار فكرة الضمير الجماعي تأسيس القوة الملزمة للعرف على قوته الذاتية فهم يرون :-
من ناحية أولى: أن مثل هذا الأساس يكتنفه الغموض لأنه بمثابة عدول عن وضع أي نظرية في أساس القوة الملزمة للعرف ،
ومن ناحية أخرى: أنه إذا كانت ضرورة العرف الذاتية لتنظيم المجتمع هي التي ببرز اعتباره مصدراًً للقواعد القانونية، إلا أنها لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تعطي للعرف قوته الملزمة.
ولعلنا نستهل وجهة نظرنا بالتسليم بما انتهى إليه الرأي الفقهي الذي يقول بأن البحث في أساس القوة الملزمة للعرف لا يعدو أن يكون بحثاًً فلسفياًً بحتاً، خصوصاًً في نظامنا القانوني المصري الذي نص فيه المشرع صراحة بالمادة الأولى من القانون المدني على اعتبار العرف أحد مصادر الرسمية للقانون، هذا من الناحية الواقعية.
أما من الناحية الفلسفية، فإننا نرى أن الاعتماد على أحد الأفكار السابقة لا يكفي بذاته لتأسيس القوة الملزمة للعرف، فلا يمكن أن ننكر دور المشرع في إكساب العرف قوته الملزمة خصوصأ مع النص الصريح في المادة الأولى من القانون المدني على اعتبار العرف مصدر رسمي للقانون، وفي ذلك إشارة واضحة إلى دور المشرع في إكساب العرف قوته الملزمة .
كذلك لا نستطيع أن نجحد دور القضاء في الكشف عن القواعد العرفية وترسيخها في نفوس الأفراد، يضاف إلى ذلك دور إرادة الأفراد في صنع العادات التي تفرضها الضرورات الاجتماعية، وفي الشعور بكونها ملزمة .
وهكذا ننتهي إلى أن العرف لا يستمد قوته الإلزامية من فكرة واحدة، وإنما من مجموعة الأفكار التي سبق وأشرنا إليها …