تمييزِ الحُكم أو تدقيقه في القضاء الإسلامي.
وتمييز الحكم يُعَدُّ من أنواع الطَّعْن؛ لأن المقصود به: إعادة النظر في القضيَّة وتدقيقها، بيد أنَّه يكون من قِبَل حاكمٍ أعلى في الدرجة، وهو ما يُعرف بقاضي التمييز، أو قاضي التدقيق.
وإن كانت الدولة العثمانيَّة هي أوَّلَ من عُنِي بتنظيم شؤون القضاء الإسلامي، وتوزيع الاختصاصات بشكلٍ دقيق، إلاَّ أنَّ تمييز الحكم كان موجودًا ومعروفًا في القضاء الإسلامي قبل قيام الدولة العثمانيَّة؛ حيث كان الحكم يُميَّز، فإن كان صوابًا، وجَب إمضاؤه، وإلاَّ نُقِض.
وكان من ضمن الأمور التي أحدَثها العثمانيون في سبيل تنظيم القضاء: إيجادُ المحاكم ذات الدرجات المتعدِّدة، ومن بينها محاكمُ التمييز التي تكون مهمَّتُها تدقيقَ الأحكام الصادرة من المحاكم الأقلِّ درجة منها.
وتمييز الحُكم وتدقيقه موجودٌ في القضاء الإسلامي منذ صَدْره الأوَّل، والشواهد التي تدلُّ على ما نقول كثيرة؛ منها ما يأتي:
1- ما رَواه الإمام أحمد وابن أبي شيبة والبيهقي عن علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – قال: “بعَثني رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – إلى اليمن، فحفَر قومٌ زُبْيَةً للأسد، فأصبَحوا يَنظرون إليه وقد وقَع فيها، فتدافَعوا حولَ الزُّبية، فوقَع فيها رجل، فتعلَّق بالذي يَليه، وتعلَّق آخرُ بآخرَ، حتى وقَع فيها أربعة، فجرَحهم الأسد، فانتدَب له رجلٌ بحَرْبة فقتَله، وماتوا من جِراحتهم كلُّهم، فقام أولياءُ الأوَّل إلى أولياء الآخر، فأخرَجوا السلاح ليَقْتَتِلوا، فأتاهم علي – رضي الله عنه – فقال: تريدون أن تتقاتَلوا ورسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – حيٌّ؟
إني أقضي بينكم قضاءً إن رَضِيتُم، فهو القضاء، وإلاَّ حجَزتُ بعضكم عن بعض؛ حتى تأتوا النبيَّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – فيكون هو الذي يقضي بينكم، فمَن عدا بعد ذلك، فلا حقَّ له، اجْمعوا من قبائل الذين حضَروا البئر رُبُع الدِّيَة، وثُلُث الدِّيَة، ونِصف الدِّيَة، والدِّيَة كاملة، فللأوَّل الرُّبع؛ من أجْل أنه أهلَك مَن يَليه، والثاني ثُلُث الدِّية؛ من أجْل أنه أهلَك مَن فوقه، والثالث نِصف الدِّية؛ من أجْل أنه أهلَك مَن فوقه، والرابع الدِّية كاملة؛ فمنهم مَن رَضِي، ومنهم مَن كَرِه، ثم قَدِموا على رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – فقصُّوا عليه القصة، فقال: ((أنا أقضي بينكم))، فقال قائل: فإنَّ عليًّا – رضي الله عنه – قضى بيننا، وقصُّوا عليه القصة، فأجازَه رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم.
ووجه الدلالة منه: أنَّ المحكوم عليهم لَمَّا لَم يَقتنعوا بالحكم، ارتفَعوا إلى قاضٍ أعلى درجةً من القاضي الأوَّل، وهو النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – وذلك من أجْل تصديق الحكم، أو نَقْضه والحكم بغيره، فأقرَّه النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – وهذا يُمثِّل مصادقةَ قاضي التمييز أو التدقيق على الحكم.
2- ورَد أنَّ عبدالله بن مسعود – رضي الله عنه – أُتي برجلٍ من قريش، وُجِد مع امرأة في مِلحفتها، ولَم تَقُم البيِّنة على ذلك، فضَرَبه عبدالله أربعين وأقامَه للناس، فانطلَق قومٌ إلى عمر بن الخطاب، فقالوا: فضح منَّا رجلاً، فقال عمر لعبدالله: بلَغني أنَّك ضربتَ رجلاً من قريش، فقال: أجَل: أُتيتُ به قد وُجِد مع امرأة في مِلحفتها، ولَم تَقُم البيِّنة على غير ذلك، فضرَبته أربعين، وعرَّفته للناس، قال: أرأيتَ ذلك؟ قال: نَعم، قال: نِعْم ما رأيتَ، قالوا: جِئنا نَستعديه عليه، فاسْتَفتاه.
ففي هذه الواقعة طعَن المحكوم عليه في حُكم القاضي الذي في الدرجة الأولى، أمام القاضي الذي هو أعلى درجةً منه، وهو أمير المؤمنين عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – فنظَر في هذا الطَّعن، فألْفى الحكمَ صحيحًا، فأيَّده.
3- وأخرَج ابن أبي شيبة في المصنَّف أن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – نَهى الوُلاة عن القتل إلاَّ بإذنه؛ حيث كتَب – رضي الله عنه – إلى أُمراء الأجناد أنْ لا تُقتَل نفسٌ دوني، وفي لفظٍ آخر: أمَّا الدمُ، فيَقضي فيه عمرُ،وعن ابن سيرين – رحمه الله تعالى – قال: “كان لا يُقضَى في دمٍ دون أمير المؤمنين”.
فهذه الآثار تدلُّ على أنَّ عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – استثنَى بعضَ القضايا المهمَّة والخطيرة – وهى قضايا الدم – وتشمل: القتل، والرَّجم، والقَطع، والجراح – بألاَّ يُنْفَذ فيها حكمُ القاضي أو الوالي إلاَّ بعد رَفْعها إليه؛ ليتحقَّق من صحة الحكم، وتوافُر شروطه من عدمه، ويُمكن أن نستنتجَ من ذلك مشروعيَّة تمييز الأحكام القضائيَّة وتدقيقها، وأنَّ ذلك قد جرَى عليه العمل في القضاء الإسلامي منذ عهده الأول.
ومما سبَق تبيَّن أنه يجوز في الفقه الإسلامي للمحكوم عليه التظلُّمُ من الحكم الصادر ضده، والطَّعن فيه أمام قاضي التمييز؛ ليبتَّ فيه؛ إمَّا بالتصديق عليه وإقراره في حالة كونه صحيحًا، أو نَقْضه والحكم بالصواب في حالة كونه خطَأً، وعليه جرَى التطبيق العملي للقضاء في الدولة الإسلاميَّة، ولا يَعني استئناف الأحكام المقرَّر في الأنظمة القضائيَّة الحديثة غير هذا.
وعندما تُرفع القضيَّة إلى قاضي التمييز، فإنَّ نظرَه حِيالها يختلف باختلاف القاضي الذي نَظَرَها، وحكَم فيها أولاً.
فإن كان ذلك القاضي الذي حكَم فيها ابتداءً صالحًا للقضاء وأهلاً له، وهو ما يُعبِّر عنه بعض الفقهاء بالقاضي العدل العالِم – فهذا لا يُردُّ من أحكامه إلاَّ ما ظهَر منها أنه أخطأَ فيه خطأً بيِّنًا وظاهرًا؛ لمخالفته نصًّا من الكتاب أو السُّنة، أو الإجماع، أو لَم يقل به أحدٌ، فإذا كان كذلك، فإنه يُنقَض الحكم، وإن كان القاضي الذي حكَم في القضيَّة – ابتداءً – عدلاً جاهلاً، فهذا تُتَصَفَّح أَقْضِيته وتُكْشَف، فما كان منها موافقًا للحقِّ والصواب، فإنه يُمضى ولا يُتَعَرَّض له بالفَسْخ والردِّ، وما كان منها خطأً بيِّنًا، فإنه يُرَدُّ ويُنْقَض.
وممَّا سبق يتبيَّن تقرير الشريعة الإسلامية لحقِّ الطَّعْن في الأحكام القضائية، فيحقُّ للمحكوم عليه – أو مَن ينوب عنه – أن يطلب تمييزَ الحكم وتدقيقه من قِبَل قاضٍ أعلى درجةً من القاضي الذي حكَم به ابتداءً، ليبتَّ فيه قاضي التمييز، فإن وجَده حقًّا وصوابًا، أمضاه، وإن وجَده خلافَ ذلك، نقَضَه وفسَخ الحكم عن المحكوم عليه، وهذا يُبرز حرْصَ الشريعة الإسلاميَّة على تحقيق العدل وإنصاف المظلومين.