حق المحكمة في تحريك تهمة شهادة الزور.
خول المشرع الجنائي المحكمة السلطة الجوازية في تحريك الاتهام الفوري و رفع الدعوى الجنائية ضد من يرتكب جنحة أو مخالفة أثناء الجلسة ، و محاكمته على اقترافه تلك الجريمة ، و ذلك بموجب المادة 244 من قانون الإجراءات الجنائية ، و التي نصت على أنه :
” إذا وقعت جنحة أو مخالفة في الجلسة ، يجوز للمحكمة أن تقيم الدعوى على المتهم في الحال ، و تحكم فيها بعد سماع أقوال النيابة العامة و دفاع المتهم … “
و هذا استثناء من الأصل المقرر بموجب المادة الأولى من قانون الإجراءات الجنائية التي أسبغت على النيابة العامة الإختصاص الأصيل على سبيل الاستئثار برفع الدعوى الجنائية و مباشرتها باستثناء الأحوال المبينة في القانون ، و منها جرائم الجلسات .
و قد خول القانون المحكمة سلطة جوازية في الأمر بالقبض على المتهم الذي يرتكب جريمة من تلك الجرائم ، إذا اقتضى الحال ذلك ، و ذلك وفقاً لما نص عليه عجز المادة 244 المشار إليها سلفاً من أنه :
” وفي جميع الأحوال يحرر رئيس المحكمة محضراً ، ويأمر بالقبض على المتهم إذا اقتضى الحال ذلك “.
وتوجه المحكمة جريمة شهادة الزور إلى كل من ترى أنه لا يقول الصدق من الشهود ، فقد نصت المادة رقم 294 من قانون العقوبات على أنه : ” كل من شهد زوراً لمتهم في جناية أو عليه يعاقب بالحبس ” ، فالمادة صريحة في أن من يصح توجيه الجريمة المذكورة إليه هو فقط الشهود ، و لذلك سميت الجريمة بشهادة الزور، و الشهود هنا هم الذين يشهدون أمام المحكمة و بعد أداء اليمين ،فكل من أجاز القانون سماع اقوالهم بصفتهم شهود يجوز توجيه تهمة شهادة الزور إليهم إذا توافرت في حقهم شرائطها .
وقد قضت محكمة النقض في ذلك بأن :
” الأصل أن الشهادة التي يسأل الشاهد عن الكذب فيها أمام القضاء هي التي تكون لها في ذاتها قوة الاقتناع لابتنائها على عيان الشاهد و يقينه من جهة ولقابليتها للتمحيص و التحقق من صحتها من جهة أخرى ،
أما الشهادة التي لا ترجع إلا إلى مجرد التسامع و الشهرة فلا تعد شهادة بالمعنى المتصورفي القانون لتعذر التحقق من صحتها ، و لا يرد على ذلك بما للشهادة بالتسامع من اعتبار في بعض الحالات الاستثنائية ، فإن هذا ليس من شأنه أن يغير طبيعة ما قيل على سبيل الرواية و لا يرفعه إلى مرتبة الشهادة التي فرض القانون العقاب على الكذب فيها ،
فإذا كانت الأقوال التي أدلى بها الشاهدان – على ماهو ثابت بالحكم – ليست إلا أنباء بما اتصل بعلمهما أو نقل لهما ، فإن شهادتهما لا تتوافرفيها أركان جريمة شهادة الزور “
( نقض في 2/6/1959 – أحكام النقض س 10 ق 135 ص 612 ).
شروط تجريم شهادة الزور:
يلزم لتحقق جريمة شهادة الزور، عدة شروط كالتالي :
1- يتعين أن يكون الشاهد قد حلف اليمين ، لأن الشاهد الذي يعتد به في المحاكمات الجنائية و غير الجنائية هو من حلف اليمين ، إعمالاً لنص المادة 283 من قانون الإجراءات الجنائية ، فبهذا الحلف تكون للشهادة قيمتها ، و يجعل للشاهد ذكرى بحرمتها عند الله تعالى ، و يجب أن يكون حلف اليمين و الشهادة أمام المحكمة ، لأن الشهادة المعاقب عليها هي التي تحصل أمام القضاء و ليس أمام أية جهة اخرى . و لذلك لا عقاب على شهادة الزور التي لم تحصل أمام القضاء ، فإذا شهد شاهد أمام النيابة العامة أو غيرها من الجهات بشهادة الزور فلا يعد مرتكباً لجريمة شهادة الزور.
فقد قضت محكمة النقض في ذلك بأن :
” … و إذ كان ذلك و كان الثابت من الشهادة المسندة إلى المطعون ضده أنها لم تحصل أمام القضاء ، و إنما أدلى بها في تحقيقات النيابة ، فإن الواقعة لا تتوافر بها العناصر القانونية لجريمة شهادة الزور “
( نقض في 2/5/1972 – أحكام النقض س 22 ق 94 ص 384 ).
2- يجب على المحكمة التي وقعت شهادة الزور أمامها أن تقوم بتحريك الاتهام حال انعقاد الجلسة و قبل قفل باب المرافعة في الدعوى ، فإن تراخت حتى انتهاء المرافعة أو لم تكتشفها إلا بعد قفل باب المرافعة لم يكن لها الحق في تحريكها ، و إنما تحرك الدعوى حينئذ بالطريق العادي لرفع الدعوى وفقاً للقواعد العامة ، أي عن طريق النيابة العامة ، فإن حركتها رغم ذلك وقع ذلك الإجراء باطلاً ، فقد نصت المادة 246 من قانون الإجراءات الجنائية على أن : ( الجرائم التي تقع في الجلسة و لم تقم المحكمة الدعوى فيها حال انعقادها يكون نظرها وفقاً للقواعد العامة ) .
وقد قضت محكمة النقض بأن :
” دل الشارع بنص المادتين 244/1 ، 246 إجراءات جنائية على أن حق المحكمة في تحريك الدعوى الجنائية مشروط بوقوع الجنحة أو المخالفة بالجلسة وقت انعقادها ، و بأن تبادرالمحكمة إلى إقامة الدعوى في الحال فور اكتشافها ، كما دل على أنه إذا تراخي اكتشاف الواقعة إلى ما بعد الجلسة فإن نظرها يكون وفقاً للقواعد العادية و لا تملك المحكمة حق تحريكها من تلقاء نفسها “
( نقض في 30/3/ 1965 – أحكام نقض س 16 ق 63 ص 319 ) .
3- أن تكون الشهادة انكاراً لحق أو تأييداً لباطل ، أي أنها تمثل أقوالاً تخالف الحقيقة ، و هذا هو الأساس في العقاب على تلك الجريمة ، فلولا أنها كاذبة ما كان العقاب عليها ، فقيمة الشهادة تكمن في مطابقتها للحقيقة ، و لهذا يجب على الشاهد أن يلتزم الصدق في كل ما يقرره ، فإذا خان هذا الواجب كان جديراً بالعقاب ، و هذا هو الركن المادي لتلك الجريمة ، و لا يلزم أن تكون الشهادة الزور مكذوبة من أولها إلى آخرها ، بل يكفي أن يتعمد الشاهد تغيير الحقيقة في بعض وقائع الشهادة – نفياً أو إثباتاً – تغييراً يضلل المحكمة . أما الركن المعنوي فيتمثل في وجوب أن يكون الشاهد عالماً بذلك ، قاصداً تضليل العدالة ،
و قد قضت محكمة النقض بأن :
” إن ما يتطلبه القانون للعقاب على شهادة الزور ، هو أن يقرر الشاهد أمام المحكمة بعد حلف اليمين أقوالاً يعلم بأنها تخالف الحقيقة بقصد تضليل القضاء …”
( نقض في 15/10/1985 – س 36 ق 154 ص 863 ).
” يشترط القانون لمسئولية الشاهد زوراً جنائياً قصده إلى الكذب و تعمده قلب الحقيقة ، بحيث يكون ما يقوله محض افتراء في مجلس القضاء و بسوء نية ، فإذا كان الحكم قد نفى هذا الوصف عن شهادة الشاهدين و أثبت أنهما شهدا بما تنطق به شواهد الحال و ظاهر المستندات ، فإن المحكمة إذ قضت ببراءة الشاهدين من جريمة شهادة الزورلم تخطئ في تطبيق القانون “
( نقض في 2/6/19567 – أحكام النقض س 10 ق 135 ص 612 ).
ولايعني ذلك أنه يشترط قصداً جنائياً خاصاً ، بل يكفي توافر تعمد الشاهد تغيير الحقيقة ، كما أنه لا يلزم الحكم التحدث استقلالاً عن هذه القصد ، طالما أن الحكم أورد في أسبابه ما يستفاد منه توافره ،
فقد قضت محكمة النقض بأن :
” أن القانون لا يتطلب في جريمة شهادة الزور قصداً جنائياً خاصاً ، بل يكفي لتوفرالقصد الجنائي فيها أن يكون الشاهد قد تعمد تغيير الحقيقة بقصد تضليل القضاء ، و ليس يضير الحكم عدم تحدثه عن هذا القصد استقلالاً ما دام توافره مستفاداً مما أورده الحكم “
( نقض في 22/5/1950 – أحكام النقض س 1 ق 221 ص 680 ) .
4 – أن يكون من شأن الشهادة التأثير في الحكم لصالح المتهم أو ضده ، حسب صراحة نص المادة 294 عقوبات المشار إليها سلفاً ، و بالتالي لا يشترط أن يتحقق ذلك التأثير بالفعل ، بحيث إذا أدلى الشاهد بشهادته و تبين للمحكمة أنها شهادة زور وقصد بها الشاهد صالح المتهم ، و حكمت بإدانة المتهم ، فإن ذلك ليس مانعاً من عقاب شاهد الزور، على الرغم من عدم استفادة المتهم منها ، لأن العبرة كما سبق القول بأن من شأنها التأثير في الحكم لا أن تؤثر فعلاً فيه ،
و قد قضت محكمة النقض بأن :
” يكفي في جريمة شهادة الزور أن تكون الشهادة شأنها أن تؤثر في الحكم لصالح المتهم أو ضده ، و لو لم يتحقق ذلك بالفعل ، و إذن فلا يمنع من قيام هذه الجريمة كون المحكمة قد أدانت المتهم الذي أديت الشهادة زوراً لمصلحته “
( نقض في 20/10/1947 مجموعة القواعد القانونية ج 7 ق 400 ص 379 ) .
5- ألا يعدل الشاهد عن أقواله الكاذبة حتى قفل باب المرافعة ، فإن رجع عن أقواله تلك قبل انتهاء باب المرافعة في الدعوى التي شهد فيها كذباً ، فلا تتحقق في حقه جريمة شهادة الزور ،
فقد قضت محكمة النقض بأن :
” لا تتحقق جريمة شهادة الزورإلا إذا أصر الساهد على أقواله الكاذبة حتى انتهاء المرافعة في الدعوى الأصلية ، بحيث إذا عدل الشاهد عن أقواله الكاذبة قبل انتهاء المرافعة في الدعوى اعتبرت هذه الأقوال كأن لم تكن “
( نقض في 27/10/1969 – أحكام النقض س 20 ق 230 ص 1172 ) .
أما إذا عدل عن اقواله المكذوبة بعد قفل باب المرافعة فلا يعتد به .