دراسة حول التكييف القانوني والشرعي للاسم التجاري
إن معرفة طبيعة الاسم التجاري هي أساس الحكم الشرعي و مبناه ومبرره و كلما تحددت صفة و طبيعة الموضوع أمكن إلحاق الحكم الشرعي المناسب .
و لقد عرفت مفاصل الاسم التجاري و ما في حكمه على وجه التفصيل و جرى بحث الموضوع في الأطر التي تحكمه ا, التي يدخل هو مفرد في موضوعها سواء في ذلك الجانب القانون باعتباره المنظم للواقعة أو الفقه الإسلامي باعتباره الجهة المطلوب منها الحكم الشرعي ليكون البديل المشروع في الواقعة محل البحث.
و سوف نوضح طبيعة الاسم التجاري في أمرين يؤول إليهما غيرهما و ينبني الحكم الشرعي على و فقهما :-
الأول : هو إثبات أن الاسم التجاري في مفهوم الفقه الإسلامي يعتبر حقاً.
ثانياً : أنه يعتبر منفعة.
الأول / الاسم التجاري حق :
يفهم من تعريف الاسم التجاري – السابق – من أنه ( الاسم الذي ارتضى التاجر التعامل بوساطته ليميز منشأته عن نظائرها ) أنه في حقيقته عبارة عن علاقة تنشأ بين هذا الاسم التجاري المتضمن لسلع معينة و بين الجمهور ، جسد هذه العلاقة جهد التاجر و اجتهاده في تمييز سلعته و تجويدها بحيث اكتسب الاسم التجاري سمعة وشهرة جعل الإقبال عليه كبيراً و تعارف جمهور الناس أو جمهور منه على صلاحيته و جودة ما يشير إليه هذا الاسم دون غيره.
و لا ريب أن صاحب الاسم التجاري لم يكتف بإطلاق اسم مجرد لسلعته أو بضائعه و إنما ضمن هذا الاسم صفات ميزته عن غيره من الأسماء و السلع و لايتحقق ذلك غلا بنوع إتقان يعرف به و يتفرد عما سواه أو ينافس به غيره من الأسماء الجيدة السمعة و لولا ذلك الاتقان ما كان لهذا الاسم ميزة على غيره و لكان اسماً مجرّداً لا قيمة له فلا سمعة وشهرة حقيقية يخشى عليها حتى تطلب حمايتها بل إن الاسم التجاري رديء السمعة يهبط بسعر السلعة عند إرادة بيعه و قد يكون ذلك سبباً في خسارة كبيرة و لذلك يعمد راغب الشراء غلى اتخاذ اسم تجاري جديد و في هذا إشارة إلى أن الاسم التجاري طيب السمعة له قيمة ذاتية .
ومن جانب آخر فإن التاجر الذي نجح في إيجاد اسم تجاري له سمعة و شهرة قد بذل جهداً ذهنياً و أموالاً و وقتاً و ليس بالقليل حتى بنى هذا الاسم و أزله منزلة مقبولة لدى الكافة أو جمهور الناس.
و لا شك أن جهده هذا قد ساعده فيه استشاريون و مختصون ليضمن أحسن المواصفات لسلعته ، و أفضل طرق ترويج هذه السلعة وتسويقها و هذا لا ريب كلفه أموالاً طائلة أخصها و أهمها ما بذله من دعاية لازمة لترويج الاسم التجاري.
و قد أصبحت الدعاية اليوم من مستلزمات العمل الناجح لتزاحم الأصناف المتماثلة و المتشابهة إلى حد كبير يكاد حد التطابق في المواصفات .
فما لم يصاحب الاسم التجاري بيان و ترغيب بأساليب متعددة فغن السلع الجيدة تبور و تضيع قيمتها في غمرة الدعايات المؤازرة لأسماء تجارية أخرى مشابهة أو قد تقل عنها جودة.
فالدعاية للاسم التجاري لإيجاد السمعة والشهرة و لحماية هذه السمعة بعد تحققها و لذا فإن التاجر محتاج إلى الاستمرار في الدعاية و الإعلان بين الفينة والأخرى كي يأمن استمرار اسمه التجاري في الأذهان حياً و مرغوبا بعيدا عن المنافسة التي قد تستبدل به غيره.
و لا ريب أن هذا بذل مادي ضخم موضوعه وسببه الاسم التجاري أو بمعنى اصح موضوعه السمعة و الشهرة التي يمثل الاسم التجاري وعاءها و عنوانها.
و لا يخفى أن الدعاية و الإعلان لا تعني بالضرورة واقعاً حقيقياً يمثل الاسم التجاري بالمواصفات التي تحملها عنه هذه الدعاية فقد تكون دعاوي ليس لها في الواقع وجود و هذا غش و تدليس لا ينفي المصلحة ويرفعها و لكنه يشوب هذه المصلحة بنوع غش و خداع ينبغي كشفه و حماية أصحاب المصالح المشروعة الجادين في أسمائهم التجارية منه و حماية جمهور الناس من مثل هذه الدعايات الموهمة غير الواقع .
و على كل الأحوال فإن العرف الجاري و التجربة المتكررة بين الناس تجعل للاسم التجاري الذي يعبر عن واقع حقيقة إذا صحبته دعاية كافية رجحنا على الاسم التجاري الذي يعبر عن زيف و خداع و إن ضخمت دعايته فالبقاء للأصلح في أسواق الناس.
فالاسم التجاري – و الحال هذه – له واقع ملموس، كما أن له قيمة ذاتية مستقلة عن السلع التي يمثلها و يحتويها.
و إلى جانب ذلك فإن للاسم التجاري هدفاً و أغراضاً يحققها أخضها ة و أهمها أنه يحفظ السلع من التقليد والتزييف
و يوجد ارتباطاً و صلة و انطباعاً معيناً بينه و بين الجمهور هذا الارتباط الذي ينتج ما نسميه السمعة و الشهرة التجارية و لا شك البتة أن هذه السمعة في حقيقتها و واقعها مصلحة فعلية بالنسبة للتاجر من جانب و لعامة الناس المتعاملين من جانب آخر .
فأما مصلحة التاجر : فإنه قد بذل من جهده وفكره و أمواله الشيء الكثير في سبيل هذا الاسم ليضمن لبضائعه رواجاً وسمعة ونجاحاً فمن مصلحته الخاصة أن يتحقق له ذلك و بالتالي فمن مصلحته أو من حقه أن يحمي جهده و أفكاره و أمواله أو بمعنى آخر أن تحفظ قيمة اسمه التجاري فلا يتعرض للتقليد أو التزييف كما تحفظ سمعته من التشويه.
و المصلحة ها هنا هي عنوان الحق و الدالة عليه أو هي في الحقيقة الحق ذاته .
و أما المصلحة العامة : فغن من مصلحة أفراد المجتمع عامة و من حقهم أن يحصلوا على البضائع التي تحمل الموصفات الجيدة التي يحتاجونها و يرغبون فيها. فمن حقهم – و الحال هذه – أن يُحمى هذا الاسم التجاري المرغوب دفعاً للغش و التزييف و هذا كله مرجعه عند التحقيق إلى مصلحة المجتمع ذاته ، إذ من المصلحة الاجتماعية أن تخلو أسواق الناس من السلع الرديئة و المغشوشة و تسوده السلع الجيدة و يمكّن أفراده من الحصول على البضائع ذات السمعة والشهرة التي تعبر عن حقيقة الجودة والصلاحية.
و من هذه الناحية يجب على الدولة أن تقر هذا الواقع وتحميه فهو يمثل مصلحة اجتماعية عامة و لا يكون لها ذلك إلا مصلحة التاجر صاحب الاسم التجاري المقبول ، فهو السبب الفعلي في وجود هذه المصلحة و هو بالتالي المكّن شرعاً من التصرف فهو في كل ذلك صاحب حق و لا شك .فإذا كان هذا كلّه من شأن الاسم التجاري . فغنه لا ريب يعتبر في قواعد الشرع و مقاصده حقاً شرعياً تجب حمايته، ومنع الاعتداء عليه و ترتيب الآثار الشرعية لصاحبه كاملة شانه شان الأعيان المملوكة.
و قد أثبتنا سابقا أن الحقوق أموال و هي من هذا الجانب يجري فيها الملك و الاختصاص مادام محلها مالاً أو له تعلق بالمال وكان قابلاً للتجزيء .
فالاسم التجاري من هذا الوجه مال يجري فيه الاختصاص و الملك .
الثاني / الاسم التجاري منفعة :
تبين من تفصيل الموضوع سابقا بما لا مجال لتردد فيه أن للاسم التجاري منفعة يشكل الاسم التجاري عنوانها و وعاءها و تنسب المنافع حينئذ للاسم التجاري و هذه المنافع أشبه بمنافع العيان و لكنها منافع ايجابية نامية و قد تستمر في نموها و توسيع رصيد عملائها و قد يضمر ذلك تبعاً لعوامل خارجية و ذاتية : من قوة الدعاية لها و تطوير سلعها و إجادة تصنيعها و إتقانها و تحسين الخدمات المقدمة و ما إلى ذلك.
فنمو منافع الاسم التجاري يعتمد على مدى الجهد الذهني المبتكر و الجهد المالي و النشاط العملي المبذول و كلما كانت الجهود المبذولة مركزة و فعالة كلما كان ثبات الاسم التجاري ورسوخه و نماؤه و انتشاره كبيراً. ولذا فإن مجال التنافس فيه كبير في سبيل تقديم الأفضل في جانبي الإبداع الفكري و الحضاري. و هذا يشير إلى أن حقيقة الاسم التجاري إنما هو منفعة في مفهوم الفقه الإسلامي فيسري عليه ما يسري على منافع الأعيان سواء بسواء .
لكن مع ملاحظة أن منافع الأعيان محدودة ثابتة مرتبطة بأعيانها لا تستوفي دونها. في أن منافع الاسم التجاري منفصلة عن مصدرها و هو صاحب إنتاجها و إبداعها بدلالة تصور إمكان بيع الاسم التجاري منفرداً عما يمثله من بضائع ، وقد يستخدم لترويج نوع آخر من السلع و ينفصل عن صاحبه و مبدعه لينتقل إلى آخر و يرتبط به.
و من جانب آخر : فإن الاسم التجاري بما له من شهرة وسمعة لا يمثل في حقيقته المادة المصنعة أي لا يمثل محل الاتجار و عينه فهي المادة المصنعة هي بمثابة مصدر هذه الشهرة و منبعها و لا يبعد القول بان الشهرة والسمعة ثمرة هذه العين و هي ثمرة غير محسوسة أو بمعنى اصح منفعة غير محسوسة و تأخذ هذه الثمرة قيمتها باعتبار مواصفات متميزة و مميزة لهذه العين عن غيرها .و على هذا فإن الاسم التجاري صفة معنوية مستقلة نتجت عن عين هي مادة تجارية بذل التاجر في سبيل إتقانها وتسويقها جهده فكرياً و ماديا ، فهي و الحال هذه ثمرة منفصلة و مستقلة عن مصدرها استقلالا مادياً و هي إن كانت ثمرة ومنفعة إلا أنها تختلف عن منافع الأعيان التابعة والمرتبطة بمثل العقارات و المنقولات من حيث إن مصدر منافع الأعيان هي ذات الأعيان فحسب في حين أن مصدر منافع الاسم التجاري الجهد الذهني و المادي المبذول في هذه الأعيان.
و لما كان الاسم التجاري مصدره الجهد الذهني و المادي المنسوب لصاحبه كان وجوده نسبياً في السلع من النوع الواحد و كان ذلك أدعى للتنافس و الإبداع مما يكسب الاسم التجاري المتميز شهرة وسمعة حقيقية .و هذا مما يحقق مقاصد الشارع في توفير الأصلح لمعايش الناس و هذه مصلحة معتبرة شرعاً فإذا تعرف الناس و توافقوا على تفضيل اسم تجاري على آخر كان هذا بمثابة مصلحة مستندها العرف.
و لما كانت المصلحة منفعة – كما قررنا سابقاً – و المنفعة مال متقوم على رأي جمهور الفقهاء من المالكية و الشافعية والحنابلة و متأخري الحنفية ، و هي كذلك أموال متقومة على رأي متقدمي الحنفية إذا ورد العقد عليها تحقيقاً لمصلحة الناس فإذا كان ذلك كذلك فيمكن القول أن الاسم الجاري يعتبر مالا في الفقه الإسلامي لا ريب .
و إذا كان الاسم التجاري منفعة و مالاً متقوماً صلح أن يكون محلاً للملك لأن الناس تعارفوا على تموله و تقويمه و اعتباره حتى جرى العرف بالاعتياض عنه بمقياس مدى ما فيه من منفعة متحصلة من استخدام مصدره.
فعين الاسم التجاري ليس مقصودا لذاته بقدر ما هو مقصود من تحصيل منافعه كما قال العز بن عبد السلام : ( إن المنافع هي المقصود الأظهر من جميع الأموال) إذ لا يمكن أن تحاز المنافع إلا بطريق حيازة أعيانها و مادام العرف قد جرى بين الناس بالاعتياض عن الاسم التجاري فهو – والحال هذه – يمثل قيمة مادية لأن الناس لا يعتاضون مالا قيمة له و ما له قيمة فهو مال لأنه كما قال الشافعي : ( لا يقع اسم مال إلا على ما له قيمة يباع بها و تلزم متلفه و إن قلت لا يطرحه الناس ) فما يتموله الناس و لا يطرحونه فهذا منهم دليل على ماليته و منعته ولذا رأينا قولهم : ( إن ما لا منفعة فيه ليس بمال فلا يقابل به ) فكل ما فيه منفعة فيه قيمة و بقدر المنفعة تكون القيمة أي المالية فالمنفعة مناط القيمة سواء في ذلك الأعيان أو المنافع أو الأمور المعنوية.
ومن جانب آخر فإن الجمهور كما رأينا يرى أن الملك علاقة معتبرة شرعاً بين المالك و المملوك و هذه العلاقة علاقة اختصاص ، أو هو صفة شرعية يمنحها الشارع من يستحقها . والمال وصف شرعي كما قال الشاطبي : ( المال ما يقع عليه الملك و يستبدل به المالك عن غيره إذا أخذه من وجهه)
فالمال ها هنا وصف شرعي أو اعتبار من الشارع بوجود هذه العلاقة و ما تستتبعه من حق التصرف و منع الغير من الاعتداء عليه.
و يترتب على ذلك أن هذا الاعتبار الشرعي له دور في مالية الشيء بل لولاه ما اعتبر الشيء مالاً ، فكل ما يعتبره الشارع من هذا الوجه هو مال سواء أكان عينناً أو منفعة أم حقاً.
فمدار المالية عند فقهائنا لا على كون الشيء من الأعيان قال البهوتي ( إن المال ما فيه منفعة مباحة )
فقد يكون عيناً لا منفعة فيه فليس هو بمال حينئذ ، وقد يكون غير عين تصحبه منفعة فيعتبر مالاً إذا كانت المنفعة محترمة شرعاً و متقومة عرفاً و يمكن إحرازها و لا يحتم الفقهاء في تحقق ملك المنفعة ملك العين و غنما يعتبرون إمكان الحيازة كافياً في تحقق الملك .
فإذا جرى الملك في الأعيان أو المنافع اعتبر المحل مالاً : ( فإن جريان الملك في الأعيان يستلزم ماليتها مادام الانتفاع به مباحاً شرعاً . وجريان الملك في المنافع يستلزم ماليتها شرعاً أيضاً على الراجح في الفقه الإسلامي المقارن و المعاوضة أساسها الملك ) وهي جارية عرفاً في الاسم التجاري و ما في حكمه كالابتكار الذهني و قد بيّن الشيخ علي الخفيف صفة المالية و مناطها فقال : ( و من الفقهاء من صرح بأن المالية ليست إلا صفة للأشياء بناء على تمول الناس و اتخاذهم إياها مالاً و محلاً لتعاملهم و لذلك لا يكون إلا إذا دعتهم الحاجة فمالت إليه طباعهم و كان بالإمكان التسلط عليه و الاستئثار به و منعه من الناس و ليس يلوم لذلك أن يكون مادة مدخرة لوقت الحاجة بل يكفي أن يكون الحصول عليها ميسوراً عند الحاجة غليها غير متعذراً و ذلك متحقق في المنافع فإذا ما تحقق ذلك فيها عدت من الأموال بناء على عرف الناس و تعاملهم ) ، ( فالمنفعة تعتبر أساساً للقيمة المالية و لو كانت ترفيهية يسيرة الشأن كما في تغريد بلبل أو تصويت ببغاء ).
و على هذا كله يمكن القول مع الاطمئنان : أ ن الاسم التجاري منفعة ومال من جانب و هو حق في ذات الوقت من جانب آخر و لما كانت الحقوق أموالاً يجري فيها الاختصاص و الملك ما دام محلها مالاً أو له تعلق بالمال و يقبل التجزيء فإن الاسم التجاري من هذا الوجه مال و منفعة و حق .