دراسة حول عقوبة القتل – بحث تحليلي.
نزعت بعض الدول الغربية عن قتل القاتل واكتفت بسجنه مدة طويلة أو قصيرة حسبما شاءت القوانين التي وضعتها لجريمة القتل، وكان طبيعيًا ونحن نترسم خطى الغرب وننظر إلى ما يبتدعه في دائرة الثقافة العلمية أو التشريع، أن نجد بين ظهرانينا من يثير هذا الموضوع فيصبح مجالاً للبحث والمناقشة بين الكتاب والمفكرين، وهكذا قدر أن نقرأ بحوثًا في هذه المسألة، وأن يكون ما نقرأه موزعًا بين الفكرتين الإبقاء والإلغاء !
والقتل هو العقوبة الوحيدة – كما نعلم – الموافقة للشريعة الإسلامية من القوانين المعمول بها الآن أمام محاكم الجنايات المدنية وإن خولفت هذه الشريعة في طريقة التنفيذ، على أن تلك العقوبة لم تؤخذ في قانون العقوبات على أنها إجراء لجزاء من التشريع الإسلامي،
بل على اعتبار أنها بعض القانون الذي اقتبسته مصر كغيرها عن القانون الفرنسي، وإذا نظرنا إلى الإجراءات التي تصحب حكم القتل من استفتاء حضرات أصحاب الفضيلة المفتين، أمكن أن يقال إن لعقوبة القتل عندنا صبغة إسلامية، وإن كانت شكلية، ولعل هذا هو السبب في أن بعض الباحثين يتناولون الشريعة الإسلامية عند الكلام في هذا الموضوع.
والنظرية الإسلامية في فرض هذه العقوبة واضحة كل الوضوح، والآية الكريمة هي قوله تعالى:
(وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ)
تشرح هذه النظرية في أوجز لفظ، وأفخم معنى، فإن القاتل متى علم أن جزاءه القتل حين يقتل النفس بغير حق يعرض عن إتيان ذلك المنكر، فيمتنع هذا النوع من الجرائم أو يكاد، ويكون ذلك مدرجة إلى حياة كان من الجائز أن يعدو عليها طغيان القائل.
فالشرع الإسلامي حين فرض هذه العقوبة رمي إلى تدعيم أصل من الأصول التي يقوم عليها العمران، وهو حفظ النفس الإنسانية، ولولا ذلك لفسدت الأرض وأصبحت مسرحًا لسيادة القوى المتلفة، ولا يمكن أن تؤدي إلى تلك الغاية النبيلة أية عقوبة أخرى.
ولو نظرنا إلى قواعد التربية الحديثة التي يؤمن بها المتعلمون ف هذا العصر، أمكننا أن ندرك وجه الصواب في تقرير هذا الجزاء للقاتل، فعلماء التربية ينادون بوجوب التسوية بين الجرم والعقاب، وجعل هذا من جنس ذاك، ويرون أن ذلك أدعى للردع، وأبلغ في الزجر عن الجريمة،
ويعللون ذلك بأسباب نفسية لا مجال لذكرها هنا، ومن أجل هذا درجت دور التعليم على اتباع هذه الخطة لما رأوا من جدواها على التهذيب، فكلفوا المقصر في واجبه من الطلبة بعمل يؤديه، وعاقبوا المتخلف عن المواعيد بحجزه بعد انصراف إخوانه وهكذا.
ومن المعجب أن الشريعة الإسلامية الغراء تحوي بين نفائس أحكامها كثيرًا مما تقره النظريات الحديثة التي يفخر بها علماء الاجتماع الآن، فالسرقة جعل جزاؤها قطع العضو الذي يقترف هذه الجناية غالبًا وهو اليد كما جعلت السن بالسن والعين بالعين، وشرع القصاص في الجروح، وقرر الإسلام في تعاليمه العامة ما لا يخرج عن هذا فهو يأمر بمقابلة الذنب بمثله في غير آية،
ومن ذلك قوله تعالى (وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا)، (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ).
ولا ريب أن هذا هو العدل بعينه، كما هو الرحمة التي لا رحمة وراءها، ويكفي تأمله للإيمان بأن هذه الشريعة السمحة لم تأتِ إلا بما يدعم أصول الاجتماع، ويركزه على أساس من السعادة مكين،
ولكنا مع هذا لا نضن على من يرون إلغاء عقوبة القتل بنظرات فيما يزعمونه من الأدلة بعد تلخيصها فيما يلي:
1 – أن في الحبس مع الشغل الشاق وصولاً إلى الزجر المقصود.
2 – إذا نفذت عقوبة القتل في شخص وثبتت براءته فلا يمكن الرجوع في حكم القضاء ولو أنه سجن لأمكن إصلاح الخطأ.
3 – الإنسان لا يملك قدرة منح الحياة فلا يجوز له أن يسلبها.
4 – إن الرحمة تحتم إلغاء هذه العقوبة لما فيها من قسوة.
هذا ما يعلق بالذهن من أدلتهم، وسنتناولها بشيء من التعليق كما رتبناها هنا:
1 – لا جدال في أن السجن أقل شدة من جريمة القتل بداهة، فاللجوء إليه منافٍ للعدل، ولا يفترق لدى النظر الصحيح من الحكم على من سلب رجلاً ماله الذي يعد بآلاف الجنيهات بأن يدفع لذلك الرجل مليمًا واحدًا !
ولا سبيل لتأييد النظرية القائلة بأن السجن يردع ردعًا باتًا، ولا سيما لمن يريد قتل النفس، فالرجل الذي يعرف أنه يقتل وتظل حياته هو مصونة لا يتردد في اقتراف جريمته ولو علم أن السجن مأواه إلى الأبد، فالحياة هي أغلى ما يحافظ عليه الإنسان وأنه ليهز أ بالصعاب جميعها ما دامت باقية.
وهب أن من الناس من يتأثر لتقييد حريته، وقسوة العمل الذي يؤديه، فكيف يتأثر ذلك الشخص الذي درج في أحضان العمل وشظف العيش ؟
إننا نرى كل يوم مجرمين لا يكادون يبرحون السجون حتى يقترفوا من الآثام ما يعيدهم إليها وخصوصًا الذين قضوا فيها زمنًا طويلاً فألفوا حياتها والعيش بين جدرانها.
2- ولا نزعم أن القضاء معصوم من الخطأ، ولكن احتمال البراءة بعيد، وقد أحيط القضاء بنظم تجعله قريبًا من الصواب بقدر ما تستطيع الطاقة البشرية، فمن الحق أن نتجاوز عن الهفوات، وفي الأصول الإسلامية ما يقرر ذلك حيث بنيت الأحكام على الأمور الكلية، لا الجزئيات وإلا تعرض كل شيء للفساد.
3 – وإذا كان عدم إمكان منح الحياة موجبًا لعدم القتل، فكيف ساغ للقاتل أن يجني على حياة فيضي عليها ؟
نحن لا ننكر أن المرء لا يملك سلب الحياة؛ ولكن أي حياة هي ؟ ذلك موضع النزاع بيننا وبين دعاة الإلغاء، فالحياة الشريفة هي التي ندعو إلى صيانتها، وحينما نقتل القاتل ننزع حياة جانية تستأهل هذا الجزاء لما اقترفته من الجريمة، فلم نفعل في سلب هذه الحياة غير ما فعله صاحبها، وإن اختلف الأمر فكنا محقين، وكان من الظالمين !
4 – أما الرحمة فلا محل لها ونحن نرى رجلاً يلغ في الدماء ولا يتحرج عن تلطيخ يديه بها فالرفق به بعد ذلك وضع للندى في موضع السيف، على أنه لا شيء من الرحمة في تركه حيًا يعبث بأرواح الأحياء، فالرحمة في قتله وإراحة الناس من أثامه، بل في هذا رحمة به أيضًا حتى لا يعود إلى إثقال نفسه بأوقار الإثم، ولا يتعرض للقتل المنكر الذي ينتظره من أيدي الموتورين.
يتضح مما تقدم أن عقوبة القتل ضرورية لحفظ العواطف الشاذة من الطغيان، ولهذا أخذت بها جميع الأمم الحية في مختلف العصور، وما زالت معمولاً بها في أمم العصرية إلا قليلاً منها وضع إلغاءها موضع التجربة، وبعضها لجأ إلى الإلغاء كوسيلة للاستثمار بالإبقاء على الأيدي العاملة، فدولة النمسا التي خرجت من الحرب منهوكة القوى مفككة الأوصال ألغت هذه العقوبة لحاجتها إلى أيد تصلح بعض ما أفسدته الحرب الزبون متجاوزة عن الاعتبارات الأخرى مؤقتًا، فالفكرة كما هو واضح اقتصادية بحتة، وليس لها غرض اجتماعي خليق بالنظر.
وبعد، فلماذا يتأفف دعاة الإلغاء من قتل القاتل وهم لا يعارضون الطبيب حين يلجأ إلى أداته يبتر بها العضو الذي دب إليه الفساد، فإن زعموا أن هذه هي الوسيلة الوحيدة لبقاء سائر الجسم معافى قلنا لهم وهذا الجسم الكبير، وجسم الجماعة، كيف يعيش صحيحًا معافى، وهذا العضو الإنساني تستشري في أنحاءه أدواء الشر والإجرام ؟!
لا شك أن استئصال هذا العضو خير دواء لشفاء الجماعة والإبقاء على حياتها، ولا شك أن الشريعة الإسلامية أنصفت الإنسانية بفرض هذه العقوبة إنصافًا يدركه المفكرون.