دراسة لعقوبة الدية في ضوء الشريعة الإسلامية.
أولاً: الدية لغة:
الدية في اللغة “مصدر من فعل (ودى) والدية حق القتيل والدية واحدة وجمعها ديات والهاء عوضاً عن الواو تقول وديت القتيل أديه ديةً إذا أعطيت ديته، واتديت أي أخذت ديته ومنه الحديث ( إن أحبوا قادوا وإن أحبوا وأدوا) أي إن شاءوا اقتضوا وإن شاءوا أخذوا الدية.
ثانياً: الدية قبل الإسلام:
كان العرب قبل الإسلام مجتمعاً قبلياً لا تنظمه قوانين ولا تسوسه أنظمة إلا أنهم مع ذلك كانوا يحرمون طائفة من الأعمال ويعاقبون عليها وفقاً لأعراف تعارفوا عليها وتحاكموا إليها وكانت هذه الأعمال المحرمة – التي نطلق عليها حالياً بلغة القانون جرائم – تختلف عقوباتها من قبيلة لأخرى لأن العرف الذي كان يسوسهم وينقادون إليه متبايناً ومختلفاً حتى أنهم كانوا يتحاكمون إلى أعراف لا تعد ولا تحصى،
وكانت الجريمة إذا وقعت من أحد الأفراد تتحمل القبيلة بأسرها تبعاتها ومسئوليتها وكثيراً ما كانت الجرائم الفردية باعثاً لحروب طويلة كحرب داحس والغبراء التي وقعت بين قبيلتين من قبائل العرب وظلت مستعرة أوارها سنوات عديدة وكانت في أصلها بسبب جريمة فردية قليلة الأهمية.
ومن هنا ظهرت الحاجة إلى الصلح بمقابل وكان الدافع لذلك الرغبة في السلام والوئام وسمي هذا المقابل عند العرب دية إلا أن الدية لم تكن على نسق واحد وإنما تتحكم فيها أمور خارجية مثل مكانة الجاني والمجني عليه ومكانة القبيلة المعتدية والمعتدى عليها.
كما أن الدية لم تكن قبل الإسلام عن جريمة القتل الخطأ فقط بل كانت الدية أيضاً عن القتل العمد وعن كافة الجروح، وتروي كتب السيرة لنا أن أهل قريش جمعوا نفراً من كل قبيلة في مؤامرتهم التي حاولوا بموجبها قتل الرسول صلى الله عليه وسلم قبل خروجه للهجرة وكان منهجهم في هذا هو أن دم الرسول صلى الله عليه وسلم سيتوزع بين القبائل فلن يكون أمام أهله آنذاك من بد إلا قبول الدية.
ثالثاً: أصل الدية من حيث التشريع:
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم “وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطئاً ومن قتل مؤمناً خطئاً فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا…”
وفي الحديث الشريف عن أبي هريرة رضي الله عنه قال من خطبة النبي صلى الله عليه وسلم في فتح مكة:
“من قتل له قتيل فهو بخير النظرين إما أن يؤدي وإما أن يقاد”
رابعاً: تعريفها وطبيعتها:
لم يختلف أحد من الفقهاء على أن الدية عقوبة يتم توقيعها على شخص إرتكب جريمة قتل خطأ وهي من العقوبات المالية التي فرضتها الشريعة الإسلامية ردعا للجناة وزجرا لهم وقد أوردت آيات القرآن الكريم بيانا تفصيليا لهذه العقوبة كما أوردت السنة النبوية شرحا تفصيليا لها ولمقاديرها
وبالتالي لا يجد الباحث في هذا المجال حاجة للاستطراد في أمر لم يختلف فيه الفقهاء، بيد أن طبيعة الدية من حيث أنها تؤول للمجني عليه أو ورثته أثارت خلطا لدى البعض فظنوا أنها نوع من أنواع التعويض وهي بعيدة كل البعد عنه لذلك فإننا سنتعرض للدية من حيث تعريفها وطبيعتها والأدلة الشرعية والعقلية الدالة على تلك الطبيعة.
والدية في تعريفها من ناحية اللغة “هي المال الذي يدفع للمجني عليه أو لورثته من بعده سواء كانت الجناية في النفس أو دون النفس وسواء كانت الجناية عمداً أو خطأ وقد سمي هذا المال في القرآن دية لقوله تعالى
(ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا)
وسمي المال المدفوع فيالإصابات التي دون النفس أرشاً كما سمي دية فالمال المدفوع في القتل يسمى دية ولايسمى أرشاً لكن فيما دون النفس يمكن أن يسمى أرشاً أو دية على حد السواء…
كما ذهب الفقه الحديث في تعريف حاسم وجازم إلى أن “الدية عقوبة مالية تتمثل في مال يؤديه الجاني أو عاقلته إلى المجني عليه أو أوليائه وهي بهذه المثابة تتشابه مع خصائص الغرامة”
والعاقلة هي عشيرة الجاني أو أهله أو قبيلته أو من تحالف واتفق معهم على سداد الدية .
وذهب الفقه أيضاً إلى أن “لا يقتصر التشريع الجنائي الإسلامي على عقوبات الحدود والقصاص فحسب وإنما تضمن بعض العقوبات المالية وتعتبر الدية والأرش هي أهم صور العقوبات المالية”
والأرش هي العقوبة المالية التي فرضها المشرع الإسلامي لبعض جرائم الاعتداء على النفس بصدد دية الجروح التي تحدث تلفا لأحد أجزاء جسد المعتدى عليه
(ويطلق على دية الجروح الأرش وهو عندما تكون الدية مقدرة، أما إذا لم تكن مقدرة فتسمى حكومة العدل)
(وأي تلف أو جرح لم يحدد له الرسول صلى الله عليه وسلم دية أو أرشاً ففيه حكومة وهي ما يحكم به القاضي بناء على تقدير أهل الخبرة)(4)
“وإذا كان القصاص حقاً للمجني عليه أو ولي الدم فإن الإسلام شرع الدية في المقابل كعقوبة بديلة مع القصاص في حالة سقوطه أو صدور عفو من أصحاب الحق في القصاص وقرر الدية كعقوبة أصلية في حالتي القتل والجرح شبه العمد والخطأ والحكمة من تشريع الدية “كعقوبة” في الحالتين هي تجنيب الأمة الإسلامية كافة صور القطيعة والبغضاء ونزع بذور الحقد والانتقام من نفوس المسلمين”
“فالقضاء بالدية فيه ترضيه للمجني عليه وأهليته حيث تشفى ما في نفوسهم من الألم والغيظ”
وعقوبة الدية عقوبة منطقية في الإسلام تتماشى مع حديث الرسول صلى الله عليه وسلم ( رفع عن أمتي الخطأوالنسيان وما استكرهوا عليه ) وقد راعى الإسلام بشرية الجاني وأن الإنسان جُبل علىالخطأ ومن طبيعته الذلل وأن الإنسان لا يستطيع أن يصل إلى درجة الكمال لبشريته ولذلك فإنه من الطبيعي أن يقع المكلفون في الخطأ وقد يكون هذا الخطأ قد ترتب عليهإزهاق روح وقتل نفس فما الحال آنذاك؟
خطأ وقع دون قصد أو عمد، ونتيجة ترتبت هي إزهاق روح وإماتة إنسان، نظر المشرع إلى المصلحتين، مصلحة النفس التي أزهقت دون حق ومصلحة الجاني الذي أخطأ دون قصد، و وازنت الشريعة بين هاتين المصلحتين فرفضت أنتهدر نفس في الإسلام دون عقوبة كما رفضت أن يقتص من قاتل لم يتعمد أو يقصد إحداثالأثر الذي وقع، لذلك ذهب فقهاء الشريعة الإسلامية إلى أنه:
“ومن ناحية أخرى أن تشريع الدية في حالة الخطأ أو شبه العمد هو تطبيق لقاعدة “لا يهدر دم في الإسلام” فإذا أوجب الإسلام رفع الخطأ عن المخطئ استثناء لأنه معذور أو استبعاد القصاص في شبه العمد لعدم المماثلة فإنه لابد من احترام النفس الآدمية وعدم إهدارها”
ولم تكن عقوبة الدية هي العقوبة الوحيدة في جريمة القتل الخطأ بل تقدم عليها عقوبة أخرى هي “تحرير رقبة مؤمنة”.. وهذه العقوبة – تحرير رقبة مؤمنة – هي من العقوبات المالية أيضاً إلا أنها بطبيعة الحال لا تذهب إلى أهل المجني عليه ولكن يستفيد منها الذي سيتم عتقه وسيستفيد منها المجتمع بأثره وهذه العقوبة تؤكد أن طبيعة الدية التي جاءت ردف تحرير الرقبة المؤمنة هي طبيعة عقابية وليت تعويضية،
ومن هذا المنطلق فإن قاضي العدل لا ينبغي عليه أبدا أن يخلط بين الدية والتعويض ولا يجوز له أن يجمع بينهما أو يقضي بتعويض محسوم منه الدية ولا يجوز له بداهة ضم عائد الدية إلى التعويض فهذا غير ذاك،
ولعل كون الدية عقوبة مالية مع كون صيرورة هذا المال لورثة القتيل قد أثار بعض اللبس والاشتباه حول طبيعة الدية هل هي تعويض ؟ أم عقوبة ؟ أم هي بين بين ؟
( قد يقال أن الدية عقوبة لأنها مال في بذله معنى زجر الجاني ولأنه يحكم بها دون توقف على طلب صاحب الحق فيها ولأنها واحدة ومتساوية، وقد يقال إنها تعويض لأنها تدخل في مال المجني عليه ولا تدخل الخزانة العامة وقد دعا هذا إلى القول بأنها تعويض وعقوبة معا وإذا عفا المجني عليه عنها جاز تعزير الجاني بعقوبة تعزيرية ملائمة ولو لم تكن عقوبة لتوقف الحكم بها على طلب المجني عليه ولما جاز العفو عنها أن تحل محلها عقوبة تعزيرية)
أظن أن هذا هو وجه الخلاف بين الرأيين ووجه الاختلاف بين النظرتين، لذلك فإننا لكي نسبر غور طبيعة الدية فإننا سنتعرض لفلسفة العقوبة في الشريعة الإسلامية ذلك أن العقوبة في الشريعة لها نسيج خاص بها قد تتشابه في بعض الملامح مع الأنظمة التشريعية الأخرى إلا أنها قطعيا تختلف عنها في كثير من الأسس والقواعد بحيث أنه لا يجوز في نهاية الأمر أن نُخضع العقوبة الشرعية لمفاهيم وقواعد العقوبة الجزائية في التشريعات العقابية الأخرى إذ أنهما من نسيجين مختلفين،
(فالدين الإسلامي عقيدة وشريعة فهو دين عقائد وعبادات وهو أيضا شريعة متكاملة تنظم حياة الإنسان من مختلف جوانبها المعنوية والمادية وتضع له القواعد والأحكام التي تكفل مسيرة الفرد والجماعة في الحياة الدنيا على الطريق السوية)
كما أن النظام الاقتصادي في الإسلام وفكرة الخزينة العامة للدولة ومصادرها ومصارفها تختلف كل الاختلاف عن الأنظمة التشريعية الأخرى فإذا كانت فكرة العقوبة المالية في التشريعات الوضعية تقوم على توجيهها إلى خزينة الدولة حيث تعتبر مصدرا من مصادر الدخل العام للدولة إلا أن هذه الفكرة لا تجد لها شبيها في الإسلام حيث لا تذهب الغرامات المالية أبدا لخزينة الدولة ( بيت مال المسلمين ) في أي حالة من الحالات اللهم إلا بعض الحالات الاستثنائية التي لا يجوز القياس عليها.، لذلك فالنظام الجنائي الإسلامي يتفرد عن الأنظمة العقابية الأخرى بهذه الخصيصة.
(ويعتبر النظام الجنائي الإسلامي من أهم الجوانب التي عنى بها الإسلام لتنظيم حياة الإنسان في دنياه إذ لم يكتف بالتذكير بالعقاب الأخروي وإنما أقام نظاماً متكاملاً للعقاب في الحياة الدنيا لردع الجناة والحيلولة دون استفحال الشر واستشراء الفساد، ويقوم النظام الجنائي الإسلامي على عدة أسس رئيسية يتميز بها عن أي نظام آخر) …
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
4.أصول الفقه – الشيخ محمد أبو زهرة – دار الفكر العربي