شرح النيابة في العقد وفقا للقانون المدني المصري – بحث قانوني متوسع
النيابة في العقد
( التعبير الصادر من النائب )
تمهيد:
التعبير الصادر من النائب ـ من حيث إنه تعبير عن الإرادة ـ يخضع لجميع القواعد التي أسلفناها ـ فيكون صريحًا أو ضمنيًا ـ ويرد فيه الأخذ بالإرادة الباطنة أو الإرادة الظاهرة ، وينتج أثره في الوقت الذي يتصل فيه بعلم من وجه إليه ، ولا يسقط بموت النائب أو فقده لأهليته ، كل ذلك على التفصيل الذي قدمناه . وهو ـ من حيث إنه تعبير يصدر من النائب لا من الأصيل ـ يقتضينا الكلام في نظرية النيابة .
والنيابة ( représentation ) هي حلول إرادة النائب محل إرادة الأصيل مع انصراف الأثر القانوني لهذه الإرادة إلى شخص الأصيل كما لو كانت الإرادة قد صدرت منه هو ( [1] ) .
والنيابة – بالنسبة إلى المصدر الذي يحدد نطاقها – تكون أما نيابة قانونية إذ كان القانون هو الذي يحدد هذا النطاق ، كما في الولي والوصي والقيم والسنديك والحارس القضائي والفضولي والدائن الذي يستعمل حق المدين . واما أن تكون نيابة اتفاقية إذا كان الاتفاق هو الذي يتولى تحديد نطاقها ، ويتحقق هذا في عقد الوكالة ( [2] ) .
والفكرة الجديدة التي اهتدى إليها الفقه الحديث في موضوع النيابة هي أن من ينوب عن غيره إنما يحل إرادته هو محل إرادة من ينوب عنه . وقد هجر الرأي القديم الذي كان يذهب إلى أن النائب إنما يتقمس شخص الأصيل ، فيتكلم بلسانه ويعبر عن إرادته . وأصبح الفقه الحديث يذهب إلى أن التعبير الذي يصدر من النائب إنما هو تعبير عن إرادة النائب لا عن إرادة الأصيل ، وذلك بالقدر الذي لا يتلقى فيه النائب من الأصيل تعليمات محددة فينفذها كما تلقاها ، إذ يكون في هذه الحدود معبراً عن إرادة الأصيل لا عن إرادته هو ( [3] ) . والخصوصية في التعبير الذي يصدر من النائب مترجما عن إرادته هو أن هذا التعبير ينتج أثره لا في شخص صاحبه كما هو الحال في كل تعبير عن الإرادة ، بل في شخص غيره وهو الأصيل .
والنيابة لا تتحقق إلا بشروط معينة ، ولها آثار خاصة . وقد ينوب شخص واحد عن طرفي العقد فتحل إرادته محل ارادتهما معاً ، أو يتعاقد أصيلاً عن نفسه نائبا عن غيره ، فيبدو في الفرضين أن الشخصي يتعاقد مع نفسه ، وهذه حالة هامة من أحوال النيابة نفردها بالذكر .
فنتكلم اذن في مسائل ثلاث : ( ا ) شروط تحقق النيابة ( ب ) آثار النيابة ( ج ) تعاقد الشخص مع نفسه .
ا – شروط تحقق النيابة
حصر هذه الشروط : حتى تكون هناك نيابة يجب:
( أولاً ) أن تحل إرادة النائب محل إرادة الأصيل .
( ثانياً ) وان تجري إرادة النائب في الحدود المرسومة للنيابة .
( ثالثاً ) وان يكون التعامل باسم الأصيل لا باسم النائب .
الشرط الأول – حلول إرادة النائب محل إرادة الأصيل:
النائب والرسول:
تقدم القول أن النائب إنما يعبر عن إرادته هو لا عن إرادة الأصيل ، فهو ليس بمجرد وسيط بين الأصيل والغير يقتصر على نقل إرادة كل منهما إلى الآخر ، وإلا كان رسولا ( messager ) . وهناك فرق بين التعاقد بنائب والتعاقد برسول . ففي الحالة الأولى يتعاقد الأصيل بنائب عنه ، ويعتبر التعاقد بين حاضرين إذا جمع النائب والمتعاقد الآخر مجلس واحد ، والعبرة بإرادة النائب فلا يصح أن يكون مجنوناً أو غير مميز ، ويعتد بالعيوب التي تلحق هذه الإرادة . أما في الحالة الثانية فالأصيل يتعاقد بنفسه ، والتعاقد يكون بين غائبين حتى لو جمع الرسول والمتعاقد الآخر مجلس واحد ، والعبرة بإرادة الأصيل إذ الرسول يعبر عن هذه الإرادة فيصح أن يكون مجنوناً أو غير مميز ما دام يقدر مادياً على نقل هذه الإرادة ويستطيع تبليغ الرسالة صحيحة ، ولا ينظر في عيوب الرضاء إلى إرادة الرسول بل إلى إرادة المرسل .
العبرة بارادة النائب وبنيَّته:
ومن ذلك نرى أن مجرد الوساطة لا تكفي لتحقيق النيابة ، بل يجب لتحقيقها أن يكون النائب معبراً عن إرادته هو لا عن إرادة من ينوب عنه . ويترتب على ذلك :
( 1 ) أن عيوب الرضاء ينظر فيها إلى إرادة النائب لا إلى إرادة الأصيل . فإذا وقع النائب في غلط أو تدليس أو إكراه كان العقد قابلا للإبطال ، ولا يعترض على هذا بأن إرادة الأصيل لم يشبها عيب من هذه العيوب . كذلك يعتد بالتدليس والإكراه الصادرين من النائب فتصبح إرادة من تعاقد معه معيبة . وإذا وقع التدليس أو الإكراه من الأصيل فإنه يؤثر كذلك في صحة العقد ، لأن التدليس والإكراه يؤثران في صحة العقد حتى لو وقعا من الغير فاولى أن يؤثرا في صحة العقد إذا وقعا من الأصيل .
( 2 ) أن حسن النية وسوءها يتلمسان عند النائب لا عند الأصيل ، وذلك في الأحوال التي يرتب فيها القانون اثرا على ذلك . فإذا كان النائب حسن النية وتعامل مع مدين معسر ، فلا يجوز لدائني هذا المدين الطعن في التصرف بالدعوى البوليصية .
أمّا إذا كان النائب سيء النية وتواطأ مع المدين المعسر ، فللدائنين الطعن في التصرف حتى لو كان الأصيل حسن النية .
وقد ينظر في بعض الفروض إلى نية الأصيل . ويتحقق ذلك إذا كان النائب يتصرف وفقاً لتعليمات محددة صدرت له من الأصيل .
فإذا وكل شخص آخر في شراء شيء معين بالذات ، وكان الموكل يعلم بما فيه من العيب والوكيل يجهل ذلك ، فلا يجوز في هذه الحالة للموكل أن يرجع على البائع بدعوى العيب .
ونرى أن هذا القدر في اعتبار نية الأصيل كاف في تعيين الدور الذي يقوم به كل من الأصيل والنائب في إبرام العقد . فالأصل أن العقد ينعقد بإرادة النائب لا بإرادة الأصيل ، على أن إرادة الأصيل تكون محل اعتبار فيما يختص بعلمه وفيما يوجه فيه النائب ، إذ أن النائب في هذه الحالة يكون بمثابة الرسول ( [4] ) .
وقد أورد القانون الجديد كل هذه الأحكام ، فنص في المادة 104 على ما يأتي :
” 1 – إذا تم العقد بطريق النيابة ، كان شخص النائب لا شخص الأصيل هو محل الاعتبار عند النظر في عيوب الإرادة أو في اثر العلم ببعض الظروف الخاصة أو افتراض العلم بها حتما . ”
” 2 – ومع ذلك إذا كان النائب وكيلا ويتصرف وفقاً لتعليمات معينة صدرت له من موكله ، فليس للموكل أن يتمسك بجهل النائب لظروف كان يعلمها هو أن كان من المفروض حتما أن يعملها ( [5] ) ” .
ولم يكن في القانون القديم مقابل لهذا النص ، ولكن القضاء والفقه في مصر كانا يعملان دون نص بمقتضى هذه الأحكام ( [6] ) .
أما الأهلية فينظر فيها للأصيل:
ولا يؤخذ من ذلك أن النائب إنما يعبر عن إرادته أنه يجب أن تتوافر فيه الأهلية اللازمة للعقد الذي يباشره نيابة عن الأصيل . ذلك لأن العقد إذا كان ينعقد بإرادة النائب فإنه ينتج أثره في شخص الأصيل ، فالأصيل لا النائب هو الذي يجب أن تتوافر فيه الأهلية للعقد ( [7] ) .
وإذا كانت الأهلية تشترط في الأصيل ، فهي لا تشترط في النائب كما قدمنا . فيصح أن ينوب قاصر أو محجور عليه في بيع منزل مملوك لشخص تتوافر فيه أهلية التصرف ( [8] ) .
ولكن النائب يجب أن يكون أهلاً لأن تصدر منه إرادة مستقلة لأنه يعبر عنن إرادته هو ، فيجب إذن أن يكون مميزا ولو كان قاصراً . ولكن إذا كان الوكيل قاصراً جاز له أن يطلب إبطال عقد الوكالة ، فلا يرجع الموكل عليه إلا بدعوى الإثراء بلا سبب أو بدعوى الفضالة ( [9] ) .
وكل هذا ما لم تكن النيابة قانونية . فإن القانون في هذا النوع من النيابة هو الذي اضفى على النائب صفته ، وهو الذي يعين أهليته وأهلية الأصيل . فيجوز أن يكون الأصيل قاصراً – مميزاً أو غير مميز – كما يجوز أن يطلب من النائب كمال الأهلية ، ويتحقق هذا في الوصاية والقوامة .
الشرط الثاني – استعمال النائب إرادته في الحدود المرسومة للنيابة:
مجاوزة النائب لحدود نيابته:
وإذا كان النائب يعبر عن إرادته هو لا عن إرادة الأصيل ، فإنه يجب أن يعبر عن هذه الإرادة في حدود نيابته ، وهي الحدود التي عينها القانون أو الاتفاق . فإذا جاوز هذه الحدود فقد صفة النيابة ولا ينتج العمل الذي قام به أثره بالنسبة إلى الأصيل .
على أن العمل ينتج استثناء أثره بالنسبة إلى الأصيل إذا كان الغير الذي نعامل مع التائب حسن النية ، أي لا يعلم بمجاوزة حدود النيابة ، وكانت لديه أسباب قوية تدعوه إلى الاعتقاد بأن النائب قد تعاقد في حدود نيابته . مثل ذلك أن يكون النائب قد خولت له نيابة مستمرة ، كعملاء التأمين ومديري الشركات ووكلاء الدوائر ، وان يكون العمل الذي قام به يدخل عادة في حدود نيابته . ومثل ذلك أيضاً أن يبقى الأصيل سند النيابة في يد النائب بعد انتهاء النيابة ، فيتعامل الغير مع النائب الذي انتهت نيابته مطمئناً إلى هذا السند ( [10] ) .
وقد اشتمل القانون الجديد على نصين هما تطبيقان للمبدأ المتقدم . ( أولهما ) هو الخاص بحالة انقضاء النيابة وكان النائب ومن تعاقد معه يجهلان هذا الانقضاء . فنصت المادة 107 على أنه ” إذا كان النائب ومن تعاقد معه يجهلان معا وقت العقد انقضاء النيابة ، فإن أثر العقد الذي يبرمه ، حقاً كان أو التزاماً ، يضاف إلى الأصيل أو خلفائها ( [11] ) ” . مثل ذلك أن يعزل الأصيل النائب دون أن يعلم هذا بالعزل ، أو أن يموت الأصيل دون أن يعلم النائب بموته ، فيتعاقد النائب مع الغير دون أن يعلم الغير بعزل النائب أو بموت الأصيل . ( والنص الثاني ) ورد في عقد الوكالة ، إذ تنص المادة 703 على ما يأتي : ” – الوكيل ملزم بتنفيذ الوكالة دون أن يجاوز حدودها المرسومة .
2 – على أن له أن يخرج عن هذه الحدود متى كان من المستحيل عليه أخطار الموكل سلفاً وكانت الظروف يغلب معها الظن بأن الموكل ما كان إلا ليوافق على هذا التصرف ، وعلى الوكيل فى هذه الحالة أن يبادر بإبلاغ الموكل خروجه عن حدود الوكالة ( [12] ) ” .
إقرار الأصيل لهذه المجاوزة:
فإذا جاوز النائب حدود النيابة لوم ينتج العمل الذي قام به أثره في حق الأصيل في إحدى الصور المتقدمة الذكر ، ولم يكن من المستطاع اعتبار النائب فضولياً لعدم توافر شروط الفضالة ، اعتبر الأصيل أجنبياً عن هذا العمل . ورجع الغير على النائب بالتعويض إذا كان له محل .
ولكن قد يقر الأصيل العمل المجاوز لحدود النيابة ، فيصبح كأنه قد تم في حدودها ، ويتقيد به الأصيل والغير من وقت التعاقد لا من وقت الإقرار ( [13] ) .
الشرط الثالث – تعامل النائب باسم الأصيل:
الاسم المستعار أو المسخّر ( prete – nom ):
ولا يكفي أن يكون النائب معبراً عن إرادته في حدود النيابة ، بل يجب أيضاً أن يكون تعامله مع الغير باسم الأصيل . فلو تعامل الوكيل باسمه لما كانت هناك نيابة ، وتكون الوكالة مقصورة على علاقة الوكيل بالموكل ، وهذا هو ما يعرف بالاسم المستعار أو المسخر . ومن ثم يضاف اثر العقد إلى الوكيل دائناً أو مدينا ولا يضاف إلى الموكل . ويرجع الموكل على الوكيل بمقتضى عقد الوكالة الذي تم بينهما .
ومع ذلك يضاف اثر العقد إلى الأصيل في حالتين :
( 1 ) إذا كان من المفروض حتما أن الغير يعلم بوجود النيابة .
( 2 ) أو كان يستوي عند الغير أن يتعامل مع الأصيل أو النائب . وقد اشتملت المادة 106 من القانون المدني الجديد على هذه الأحكام . فنصت على ما يأتي : ” إذا لم يعلن العاقد وقت إبرام العقد أنه يتعاقد بصفته نائباً ، فان اثر العقد لا يضاف إلى الأصيل ، دائنا أو مدينا ، إلا إذا كان من المفروض حتما أن من تعاقد مع النائب يعلم بوجود النيابة ، أو كان يستوي عنده أن يتعامل مع الأصيل أو النائب ” ( [14] ) .
التعاقد باسم الأصيل:
فيجب إذن وقت أن يتعاقد النائب مع الغير أن يتعامل باسم الأصيل ولحسابه . وهذه النية قد يفصح عنها ، أو قد تفهم ضمناً من الظروف ، كما إذا باع مستخدم بضاعة مخدومة في محل هذا المخدوم ، وكالخادم يتعاقد عن سيده ، وكقبطان السفينة يتعاقد عن صاحبها .
والتعاقد باسم الأصيل يجب أن يتحقق أيضاً عند الغير الذي يتعاقد مع النائب . فإذا كان النائب يعمل باسم الأصيل ، ولكن الغير يتعامل معه في شخصه ، فالنيابة لا تقوم ، والعقد لا يتم ، لا مع شخص النائب لأنه لا يتعامل لنفسه ، ولا مع الأصيل لأن الغير لا يقصد التعامل معه . ولكن إذا كان النائب يعمل باسمه والغير يتعامل باسم الأصيل ، أضيف العقد إلى الأصيل في الحالتين اللتين نصت عليهما المادة 106 ، وقد تقدم ذكرهما .
ب – آثار النيابة
العلاقة فيما بين النائب والغير:
النائب يعمل باسم الأصيل كما قدمنا ، فاثر العقد لا يلحقه هو بل يلحق الأصيل . ويترتب على ذلك أن النائب لا يستطيع أن يطالب الغير بحق من الحقوق التي أنشأها العقد ، إلا إذا ثبتت له النيابة في تنفيذ العقد كما ثبتت له في إبرامه . كذلك لا يقوم في ذمة النائب التزام بالعقد . ولكن إذا كان النائب لا يلتزم بالعقد ، فإن هذا لا يمنع من أن يلتزم بخطأه ، حتى إذا قصر في أداء مهمته صار مسئولا عن هذا التقصير ، إما نحو الغير الذي تعاقد معه ، وإما نحو الأصيل نفسه ، وإما نحو الاثنين معاً .
العلاقة فيما بين النائب والأصيل:
يحدد هذه العلاقة المصدر الذي أنشأ النيابة : الوكالة أو القانون .
العلاقة فيما بين الأصيل والغير:
تتولد علاقة مباشرة فيما بين الأصيل والغير ، ويختفي شخص النائب من بينهما . فهما المتعاقدان ، وهما اللذان ينصرف إليهما اثر العقد . وهذه هي الخطوة التي وقف دونها القانون الروماني . وهي الخصيصة المميزة للنيابة في القوانين الحديثة ، انتهى إليها منطق النيابة في تطورها ، وقضت بها النصوص الصريحة . فقد نصت المادة 105 من القانون المدني الجديد على أنه ” إذا ابرم النائب في حدود نيابته عقداً باسم الأصيل ، فإن ما ينشأ عن هذا العقد من حقوق والتزامات يضاف إلى الأصيل ” . ( [15] )
فيكسب الأصيل الحقوق التي تولدت له من العقد ، ويطالب الغير بها دون وساطة النائب .
كذلك يكسب الغير الحقوق التي تولدت له من العقد ، ويرجع بها مباشرة على الأصيل .
ج – تعاقد الشخص مع نفسه
نظرة عامة:
متى سلمنا أنه يجوز حلول إرادة محل أخرى بطريق النيابة ، أمكن أن نسلم أن شخصا واحدا يكون نائبا عن غيره وأصيلاً عن نفسه ، أو أن يكون نائبا عن كل من المتعاقدين ، فيجمع في الحالتين طرفي العقد في شخصه . ولا يكون ثمة إلا إرادة واحدة هي إرادة ذلك الشخص وقد حلت إرادتين ( [16] ) .
وقد اختلفت الشرائع في موقفها من هذه المسالة . فمنها ما يحرم في الأصل تعاقد الشخص مع نفسه ، كالقانون الألماني والمشروع الفرنسي الايطالي والشرعية الإسلامية والشريعة الانجليزية والقانون المصري الجديد . ومنها ما يبيحه بوجه عام ، كالقانون السويسري والقانون الفرنسي والقانون المصري القديم . ولكن لا توجد شريعة أطلقت التحريم أو الإباحة . فالشرائع التي حرمت تعاقد الشخص مع نفسه أباحته في فروض معينة ، والشرائع التي أباحته حرمته في ظروف استثنتها ، وكان من شان التوسع في الاستثناء عند الفريقين ، خضوعاً لمقتضيات الحياة العملية ، أن تقربت الشرائع التي تحرم من الشرائع التي تبيح .
تعاقد الشخص مع نفسه في القانون القديم:
لم يرد في القانون القديم نص عام يحرم تعاقد الشخص مع نفسه أو يبيحه . فنزع الفقه إلى الاجتهاد ، وميز بين أن يكون الشخص الذي يتعاقد مع نفسه ينوب عن أحد طرفي العقد ويتقدم أصيلاً عن نفسه وان يكون نائباً عن الطرفين . ذلك أنه جعل العبرة في منع هذا التعاقد أو أباحته وجود خطر يهدد مصلحة الأصيل أو انعدام هذا الخطر ، فيمنع التعاقد عند تحقق الخطر ويباح عند انتفائه . ومن هنا جاء التمييز بين شخص يتعاقد مع نفسه لنفسه وآخر يتعاقد مع نفسه لغيره .
فالخطر متحقق في الحالة الأولى بالنسبة إلى بعض العقود ذات الأهمية كالبيع ونحوه فتمتنع مباشرة هذه العقود ، أما بالنسبة إلى العقود الأخرى فتجوز مباشرتها . ولا يتحقق الخطر في الحالة الثانية إلا في بعض عقود استثنائية كالصلح ، فيباح تعاقد الشخص مع نفسه إلا في هذه الحالات الاستثنائية ( [17] ) .
تعاقد الشخص مع نفسه في القانون الحالي:
أما القانون الحالي فقد أورد نصا عاما يحرم تعاقد الشخص مع نفسه إلا في بعض الحالات . إذ قضت المادة 108 بأنه” لا يجوز لشخص أن يتعاقد مع نفسه باسم من ينوب عنه ، سواء أكان التعاقد لحسابه هو أم لحساب شخص أخر دون ترخيص من الأصيل . على أنه يجوز للأصيل في هذه الحالة أن يجيز التعاقد . كل هذا مع مراعاة ما يخالفه ، مما يقضي به القانون أو قواعد التجارة . ” ( [18] )
فالأصل إذن أن تعاقد الشخص مع نفسه لا يجوز ، سواء في ذلك تعاقد الشخص لحساب نفسه كما إذا كان موكلا في بيع مال فاشتراه لنفسه ( [19] ) ، أو تعاقد لحساب غيره وهو نائب عن طرفي العقد كما لو كان موكلا في بيع مال فاشتراه لشخص وكله في الشراء . ذلك أنه يتحكم بإرادته وحده في مصلحتين متعارضتين ، وهذا التعارض في الحالة الثانية لم يحسب حسابه أحد من الأصيلين ، وهو في الحالة الأولى تعارض مع مصلحته الشخصية ذاتها ، فلا تتيسر الحماية الواجبة لمصلحة الأصيل في كلتا الحالتين ( [20] ) .
وهناك رأي يذهب إلى أن تعاقد الشخص مع نفسه في القانون الحالي قابل للإبطال لمصلحة الأصيل ولذلك ترد عليه الإجازة ، وقد تقرر هذا بمقتضى نص خاص . وقد كنا من القائلين بهذا الرأي وقررناه في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي ( [21] ) . ولكن تبينا بعد التأمل أن تحريم تعاقد الشخص مع نفسه إنما يقوم على قرينة قانونية هي أن الشخص إذا اناب عن غيره في التعاقد فهو لا يقصد التوسع في هذه الانابة إلى حبد أن يبيح للنائب أن يتعاقد مع نفسه أصيلاً أو نائبا عن شخص آخر ، لما ينجم عن هذا الموقف من تعارض في المصالح . فإذا ما تعاقد النائب مع نفسه بالرغم من ذلك كان مجاوزاً لحدود النيابة ، يكون شأنها شأن كل وكيل جاوز حدود نيابته ، فلا يكون عمله نافذاً في حق الأصيل إلا إذا اجازه . وهذا ما يقضي به صراحة نص المادة 108 .
على أن هذه القرينة القانونية قابلة لإثبات العكس ، فيجوز للأصيل أن ينقضها وان يرخص مقدما للنائب في التعاقد مع نفسه . وفي هذه الحالة يعمل النائب في حدود نيابته إذا تعاقد مع نفسه ، يكون عمله نافذا في حق الأصيل . وهذا ما صرحت به أيضاً المادة 108 سالفة الذكر .
وتنقض هذه القرينة القانونية كذلك إذا وجد نص في القانون أو قضت قواعد التجارة بجواز تعاقد الشخص مع نفسه . مثل النص القانوني ما قضى به قانون المحاكم الحسبية الجديد في المادة 20 وهي توجب الحصول على إذن المحكمة لتصرف الوصي في مال القاصر – ومن باب أولى إذا كان هذا التصرف لنفسه – وفي إيجار مال القاصر لنفسه ، وقد عدد النص طائفة معينة أخرى من التصرفات . أما بالنسبة إلى الولى فتجيز الشريعة الإسلامية أن يشتري الأب مال ولده أو يبيع ماله من ولده بمثل القيمة أو بيسير الغبن ، ويقاس على البيع غيره من التصرفات ( [22] ) . ومثل ما تقضي به قواعد التجارة تعامل الوكيل بالعمولة باسم طرفي التعاقد وفقاً لقواعد القانون التجاري ( [23] ) .
ويستخلص مما قدمناه أن الجزاء في تعاقد الشخص مع نفسه لا يُلتَمَسُ في نظرية البطلان ، بل في نظرية مجاوزة النائب لحدود نيابته .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( 1 ) إذا كانت النيابة تبدو في القانون الحديث نظاما منطقيًا معقولا ” فإن الأمر لم يكن كذلك في القوانين القديمة . فقد كانت هذه القوانين تستعصبى على فكرة النيابة ، ولم تسلم بها إلا ندرجًا وفي حدود معينة .كان القانون الروماني يعترف من قديم بنيابة الابن والعبد عن رب الأسرة ، ولكن في جعله دائنا لا مدينًا . ثم أخذ يعترف بنيابتها في جعل رب الأسرة مدينًا أيضًا ولكن في حدود معينة . أما غير الابن والعبد فلم يكن له أن ينوب عن غيره ممن لا يخضع لسلطته لا دائنا ولا مدينا . فإذا وكل شخص آخر في عمل يقوم به مع الغير ، فالغير لا يعرف إلا الوكيل يرجع عليه ، وكذلك شخص آخر في عمل يقوم به مع الغير ، فالغير لا يعرف إلا الوكيل يرجع عليه ، وكذلك الموكل لا يعرف إلا الوكيل . ولم تكن هناك علاقة مباشرة بين الغير والموكل . ثم تطور القانون فصار للغير دعوى قبل الموكل مع استيفاء دعواه الأصلية قبل الوكيل ، ما لم يكن النائب وكيلا تحكم القانون كالوصي والقيم ، فقد كان يعطى دفعًا لدعوى الغير ، وفي في هذه الحالة كان الغير لا يستطيع الرجوع إلا على الأصيل فكانت النيابة كاملة . أما أن يعطي الموكل دعوى قبل الغير ، أي أن يصبح الشخص دائنا بوكيل ، فهذا ما لم يتم في القانون الروماني إلا في حالات معينة منها حالة النيابة القانونية . وبقى الوكيل هو الدائن للغير ، ويؤدي بعد ذلك حسابا للموكل فيكون مديناً له ( انظر جيرار ص 678 ، ص 690 – وانظر في القانون الفرنسي القديم بريسو ( Brissaud ) ص 1442 وما بعدها ) .وفي الشريعة الإسلامية اختلفت المذاهب في هذا الموضوع . فأبو حنيفة يرجع حكم العقد إلى الموكل ، أما حقوق العقد فترجع إلى الوكيل ، وهو في هذا قريب من القانون الروماني على النحو الذي تقدم . والشافعي يرجع حكم العقد وحقوقه إلى الموكل دون الوكيل ، وهو في هذا يتفق مع القانون الحديث ( انظر البدائع 6 ص 33 – ص 34 ) .
( [2] ) وقد ينظر إلى النيابة بالنسبة إلى المصدر الذي يضفي على النائب صفة النيابة . فتكون قانونية كام في الولي ، فإن القانون هو الذي يعين الأولياء . وتكون قضائية كما في الوصى والقيم والحارس القضائي ، فإن جهة قضائية هي التي تختار هؤلاء . وتكون اتفاقية كما في الوكيل ، فان العقد هو الذي يعينه . ومن ثم تكون نيابة الوكيل نيابة اتفاقية بالنسبة إلى المصدر الذي يحدد نطاقها وبالنسبة إلى المصدر الذي يضفي صفة النيابة . وتكون نيابة كل من الولى والفضولى والدائن نيابة قانونية بالمعنيين معا . وتكون نيابة كل من الوصي والقيم والحارس والسنديك نيابة قانونية بالمعنى الأول ونيابة قضائية بالمعنى الثاني .وقد كان المشروع التمهيدي يشتمل على نصين حذفا من المشروع النهائي لوضوح حكمهما . فكانت المادة 155 من المشروع التمهيدي تنص على ما يأتي : ” يجوز التعاقد بالإصالة أو بطريق النيابة ما لم ينص القانون على خلاف ذلك ” . وكانت المادة 156 من هذا المشروع تنص على ما يأتي : ” 1 – النيابة اتفاقية أو قانونية . 2 – يحدد التفويض الصادر من الأصيل نطاق سلطة النائب عندما تكون النيابة اتفاقية ، فإذا كانت قانونية فالقانون هو الذي يحدد تلك السلطة ” . ( انظر في هذا وفي المذكرة الإيضاحية لهذين النصين المحذوفين مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 90 – ص 91 ) .
( [3] ) وهذا هو الفرق ما بين النائب والرسول كما سنرى ، فالنائب يعبر عن إرادته هو لا عن إرادة الأصيل ، أما الرسول فيعبر عن إرادة المرسل لا عن إرادته هو . فإذا تلقى النائب تعليمات محددة من الأصيل ، كان رسولا في حدود هذه التعليمات ونائبا في خارج هذه الحدود ( انظر في هذا المعنى بلانيول وربير وإسمان 1 فقرة 57 ) .
ويذهب الدكتور حلمي بهجت بدوي إلى وجوب التمييز بين النيابة الاتفاقية والنيابة القانونية . ففي الأولى تشترك إرادة الأصيل والنائب في إمضاء العقد ، ونتيجة لهذا الاشتراك توزع شروط الإرادة على هاتين الإرادتين بقدر مساهمتهما في إمضاء العقد . أما في النيابة القانونية فالعقد ينعقد بإرادة النائب وحده ، ولكن اثر العقد هو حكم من أحكام القانون ينصرف إلى الأصيل ( الدكتور حلمي بهجت بدوي ص 79 – 80 – وانظر في النظريات المختلفة التي تقول باشتراك ارادتي النائب والأصيل في إبرام العقد ديموج 1 ص 147 – 150 ) . وانظر أيضاً في النظريات المختلفة في طبيعة النيابة ، وهل النائب يتقمص شخص الأصيل عن طريقة الافتراض القانوني ( fiction ) كما هو الرأي القديم ، أو أن النائب ليس إلا رسولا كما يقول سافيني ، أو أن إرادة النائب تحل محل إرادة الأصيل كما يقول إهرنج ، أو إن إرادته تشترك مع إرادة الأصيل كما يقول ميتييس ( Mitteis ) ، إلى رسالة حديثة في النيابة والدور الذي تقوم به في إنشاء الالتزامات للدكتور جان كلاريز ( Jean Clarise ) ليل سنة 1949 ص 147 – ص 165 . ويذهب الدكتور كلاريز صاحب هذه الرسالة إلى أن إرادة النائب وحدها ، أو مشتركة مع إرادة الأصيل ، هي التي تحدد نطاق الالتزام ( contenu de l’obligation ) ، أما الذي يخلق الرابطة القانونية ( lien de droit ) ما بين نطاق الالتزام وذمة الأصيل فهي إرادة الأصيل في النيابة الاتفاقية والقانون ذاته في النيابة القانونية ( انظر الرسالة المتقدمة الذكر ص 167 – ص 178 ) . وانظر في رأي للأستاذ بولانجية ( Boulanger ) يذهب إلى أن إرادة النائب تشترك مع إرادة الأصيل إذا كان عقد الوكالة هو مصدر النيابة ، أما إذا كان مصدرها القانون أو القضاء فإرادة النائب تحل محل إرادة الأصيل ، إلى المقدمة التي وضعها الأستاذ بولانجيه للرسالة المذكورة . ويشير الدكتور كلاريز في رسالته ( ص 137 – ص 140 و 223 ) إلى جواز أن تكون النيابة في عمل مادي ( fait materiel ) لا في عمل قانوني ( acte juridique ) ، ويضرب مثلا لذلك نيابة التابع عن المتبوع فيما يرتكب الأول من خطأ يسأل عنه الثاني ، فالمتبوع في هذه الحالة يكون مسئولا عن تابعه لأن هذا يعتبر نائبا عنه ل لا في الأعمال القانونية فحسب بل وفي الأعمال المادية ( انظر في هذا المعنى شيروني ( Chironi ) في المسئولية اللاعقدية جزء أول فقرة 156 وما بعدها – مازو جزء أول فقرة 934 وما بعدها ) . وتكون النيابة على هذا الأساس إما نيابه في الإرادة كنيابة الوكيل عن الموكل ، أو نيابة في المصلحة كنيابة الولي عن الصغير ، أو نيابة في العمل كنيابة التابع عن المتبوع ونيابة الفضولي عن رب العمل إذا كان العمل الذي قام به الفضولي عملا مادياً .
( [4] ) قارن ديموج 1 فقرة 147 – فقرة 150 ، والدكتور حلمي بهجت بدوي ص 79 – ص 80 ، والدكتور احمد حشمت أبو ستيت ص 93 – ص 94 .
( [5] ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المادة 157 من المشروع التمهيدي على النحو الآتي : ” يكون شخص النائب لا شخص الأصيل هو محل الاعتبار عند النظر في صحة التعبير عن الإرادة ، ومدى ما يتأثر به هذا التعبير من وجود عيب في الإرادة ، أو من العلم ببعض الظروف الخاصة أو وجوب العلم بها ” . ولما عرض على لجنة المراجعة ، اقترح استكمال الحكم بما يسمح في بعض الأحوال بأن يعتد بإرادة الأصيل إلى جانب إرادة النائب ، وقدمت المادة في المشروع النهائي تحت رقم 107 بالنص الآتي : ” 1 – إذا تم العقد بطريق النيابة ، كان شخص النائب لا شخص الأصيل هو محل الاعتبار عند النظر في عيوب الإرادة أو في أثر العلم ببعض الظروف الخاصة ، أو افتراض العلم بها .
2 – ومع ذلك إذا كان النائب وكيلا ويتصرف وفقا لتعليمات معينة صدرت له من موكله ، فليس للموكل أن يتمسك بجهل النائب لظروف كان يعلمها هو ، أو كان المفروض حتما أن يعلمها . ” وقد وافق مجلس النواب على المادة دون تعديل تحت رقم 107 . ووافقت لجنة القانون المدني لمجلس الشيوخ على النص بعد تعديل جاء عنه في تقريرها ما يأتي : ” عدلت العبارة الأخيرة في الفقرة الأولى فأستعيض عن التعبير ، ” بوجوب العلم بها ” بالتعبير ” بافتراض العلم بها حتما ” ، حتى تكون دلالة النص أضيق . وعدلت العبارة الأخيرة من الفقرة الثانية تعديلا يتمشى مع ما تقرر بالنسبة إلى الفقرة الأولى ” . وأصبح رقم المادة 104 . ووافق مجلس الشيوخ على المادة كما عدلتها اللجنة .وجاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : ” ليست الأحكام الواردة في هذه المادة سوى تطبيقات للنظرية الحديثة في النيابة القانونية . فما دامت إرادة النائب هي التي تنشط لإبرام العقد بجميع ما يلابسها من ظروف ، فيجب أن يناط الحكم على صحة التعاقد بهذه الإرادة وحدها دون إرادة الأصيل . وعلى هذا النحو يكون للعيوب التي تلحق إرادة النائب أثرها في التعاقد . فإذا انتزع رضاه بالإكراه ، أو صدر بتأثير غلط أو تدليس ، كان العقد قابلا للبطلان لمصلحة الأصيل ، رغم أن إرادته براء من شوائب العيب . أما فيما يتعلق بالظروف التي تؤثر في الآثار القانونية للتعاقد فيجب أيضاً أن يكون مرجع الحكم عليها شخص النائب لا شخص الأصيل ، وعلى ذلك يجوز أن يطعن بالدعوى البوليصية في بيع صادر من مدين معسر توطأ مع نائب المشتري ولو أن الأصيل ظل بمعزل عن هذا التواطؤ ” . ( انظر في كل هذا مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 90 – ص 94 ) .
( [6] ) محكمة الاستئناف المختلطة في 17 مايو سنة 1905 م 17 ص 277 – نظرية العقد للمؤلف فقرة 206 .
( [7] ) محكمة الاستئناف المختلطة في 30 يناير سنة 1913 م 25 ص 161 . والعبرة في توافر الأهلية في الأصيل بالوقت الذي يباشر فيه النائب العقد ، فلو أن الأصيل بالوقت الذي يباشر فيه النائب العقد ، فلو أن الأصيل لم يكن أهلاً لهذا العقد وقت إعطاء الوكيل ، وكان أهلاً له وقت مباشرة الوكيل للتعاقد ، صح العقد ، ولا يصح إذا كان الأصيل أهلاً وقت التوكيل وغير أهل وقت مباشرة العقد .
( [8] ) وقد قضت محكمة الاستئناف الوطنية بأنه يجوز للسفيه المحجور عليه أن يكون وكيلا عن الغير ، ولا تشترط فيه أهلية خاصة ، لأنه لا يعمل باسمه بل باسم موكله ( 8 يونيه سنة 1915 المجموعة الرسمية 16 ص 148 ) .
( [9] ) ويلاحظ أنه إذا اختار الوكيل القاصر أن يبطل عقد الوكالة ، فإن نيابته المستمدة من هذا العقد تبطل ببطلان العقد ، ويصح أن ينقلب إلى فضولي إذا توافرت شروط الفضالة . هذا وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي ، في صدد توافر الأهلية في الأصيل دون النائب ، ما يأتي : ” وعلى تقيض ما تقدم يعتد في الحكم على الأهلية بشخص الأصيل دون النائب . فإذا كان الأصيل أهلاً للتعاقد بالأصالة ، صح تعاقد النائب عنه ولو لم يكن هذا النائب كامل الأهلية . وقد يكون مصدر النيابة في الصورة الأخيرة وكالة ، فما دام النائب غير أهل لعقدها ، كان عقد الوكالة وحده قابلا للبطلان ” . ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 92 ) .
( [10] ) وكان المشروع التمهيدي يشتمل على نص يخول للغير أن يطلب من النائب صورة من سند نيابته ، فكانت المادة 158 فقرة ثانية من هذا المشروع تنص على ما يأتي : ” ولمن يتعاقد مع النائب أن يطلب منه إثبات نيابته ، فإذا كانت النيابة ثابتة بعقد مكتوب فله أن يحصل منه على صورة مطابقة للأصل تحمل توقيعه ” . وبقى هذا النص في المشروع النهائي وفي المشروع الذي وافق عليه مجلس النواب . ولما عرض على لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ قررت هذه اللجنة حذفه ، ” إذ اعترض عليه بإنه لا فائدة منه إطلاقاً ، على أن سند النيابة قد يكون عرفياً ، فإذا أريد الإبقاء على هذه الفقرة فيجب أن ينص فيها على أن يكون سند النيابة رسميا ، لاسيما أن لهذه المادة مقابلا في القانون الحالي وهي المادة 518 مدني – وكانت المادتان 518 / 634 من القانون القديم تقضيان بالحق لمن يعامل الوكيل في أن يطلب منه صورة رسمية من سند التوكيل – ولما تبين من المناقشة أن هذه الفقرة لا ضرورة لها لأن الشخص الذي يتعاقد مع نائب عن الغير تقضي عليه الظروف بالاحتياط والحكمة في معاملته ، فقد يكتفي بسند عرفي ، وقد يصر على طلب سند رسمي ، وقد يصرف النظر عن هذا وذاك ، فالمرجع في هذا الخصوص إلى رغبة المتعاقد مع النائب عن الغير ” . وجاء في تقرير اللجنة : ” حذفت الفقرة الثانية من هذه المادة لأنها تتناول مسالة عملية تفصيلية ، في القواعد العامة ما يغني عن النص عليها ” . ووافق مجلس الشيوخ على المادة كما عدلتها اللجنة . ( انظر في كل هذه مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ، ص 95 – ص 97 ) .
وجاء في المذكرة الإيضاحية للنص المحذوف ما يأتي : ” فإذا احتفظ النائب بسند نيابته بعد انقضائها ، كان لمن تعاقد معه بناء على ثقته في هذا السند حق التمسك بالنيابة . ويستوي في هذه الحالة أن يكون النائب عالماً وقت العقد بانقضاء نيابته أو أن يكون جاهلا بهذه الواقعة . وقد روعى في تقرير هذه القاعدة ما هو ملحوظ من خطأ الأصيل في عدم سحب السند من النائب بعد انقضاء النيابة مباشرة ” . ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 102 – ص 103 ) .
( [11] ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المادة 160 من المشروع التمهيدي على الوجه الآتي : ” ما دام النائب لم يعلم بانقضاء نيابته ، فإن اثر العقد الذي يبرمه ، حقا كان أو التزاما ، ينصرف إلى الأصيل وخلفائه كما لو كانت النيابة لا تزال باقية ، هذا إذا كان الغير الذي تعاقد معه النائب يجهل هو أيضاً أن النيابة قد انقضت ” . ولما عرضت المادة على لجنة المراجعة أقرتها بعد أن أبدلت عبارة ” ينصرف إلى الأصيل ” بعبارة ” يضاف إلى الأصيل ” ، وأصبح رقم المادة 110 في المشروع النهائي . ووافق مجلس النواب على المادة دون تعديل تحت رقم 110 . وعدلت لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ صياغة الادة إلى الوجه الذي استقرت عليه في القانون حتى يكون المعنى اوضح دون مساس بجوهر الحكم ، وأصبح رقم المادة 107 ووافق مجلس الشيوخ على المادة كما عدلتها اللجة – هذا ، وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : ” قد تنقضي النيابة دون أن يعلم النائب بذلك ، كما إذا كان يجهل موت الأصيل أو الغاء التوكيل ، فإذا تعاقد في هاتين الحالتين مع شخص حسن النية لا يعلم بانقضاء النيابة ، كان تعاقده ملزما للأصيل وخلفائه . وقد قصد من تقرير هذا الحكم إلى توفير ما ينبغي للمعاملات من أسباب الثقة والاستقرار ” . ( انظر في كل هذا مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 102 – ص 104 ) .
( [12] ) ويلاحظ أنه في الفرضين الأولين – النيابة المستمرة وبقاء سند النيابة في يد النائب – ينتج عمل النائب أثره بالنسبة إلى الأصيل لأن هذا قد ارتكب خطأ ، فيكون نفاذ عمل النائب في حقه بمثابة التعويض . أما في الفرضين الأخيرين – جهل النائب والغير لانقضاء النيابة والظروف التي يغلب معها الظن أن الموكل يوافق على تصرف الوكيل – فنفاذ عمل النائب في حق الأصيل إنما هو تطبيق لقواعد الفضالة .
( [13] ) فلو كان النائب وكيلا وجاوز حدود الوكالة ، جاز القول إنه نصب نفسه وكيلا بإرادته . المنفردة فيما جاوز فيه حدود الوكالة ، على أن يقره الموكل بعد ذلك . ويكون مصدر النيابة في هذه الحالة هو القانون ، فقد جعل الوكيل – بناء على إرادته – نائبا فيما يجاوز حدود الوكالة . والنيابة هنا ليست منجزة ، بل هي معلقة على شرط موقف هو أن يصدر إقرار من الموكل .
( [14] ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المادة 159 من المشروع التمهيدي على الوجه الآتي : ” إذا لم يعلن العاقد وقت إبرام العقد أنه يتعاقد بصفته نائبا ، فان أثر العقد لا يضاف إلى الأصيل دائنا أو مدينا ، إلا إذا كان من المفروض حتما أن من تعاقد معه النائب يعلم بوجود النيابة ، أو كان يستوي عنده أن يتعامل مع الأصيل أو النائب ” . فأقرته لجنة المراجعة بعد تعديلات لفظية تحت رقم 109 من المشروع النهائي . ووافق مجلس النواب على المادة دون تعديل تحت رقم 109 . وفي لجنة القانون المدني لمجلس الشيوخ ، استعيض عن عبارة ” إلا إذا كان يستفاد من الظروف ” بعبارة ” إلا إذا كان من المفروض حتما ” ، وأصبح رقم المادة 106 . ووافق مجلس الشيوخ على المادة كما عدلتها اللجنة . ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 98 – ص 101 ) .
وانظر أيضاً المادة 32 فقرة 2 و 3 من قانون الالتزامات السويسري . وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : ” وقد استحدث المشروع باقتباس هذا النص من تقنين الالتزامات السويسري حكماً هاماً يطابق أحكام الشريعة الإسلامية . أما القواعد الخاصة بالاسم المستعار أو التسخير ، وهي التي تقضي بانصراف آثار العقد إلى النائب أو المسخر ، فلا تنطبق إلا إذا كان من يتعامل مع هذا النائب يجهل وجود النيابة ، أو كان لا يستوي عنده التعامل معه أو مع من فوضه ” ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 96 ) .
هذا ويلاحظ أن الفضولي ، وهو نائب نيابة قانونية عن رب العمل كما قدمنا ، إذا عمل باسمه لا باسم رب العمل ، فإن الأثر ينصرف إليه هو لا إلى رب العمل ، تطبيقاً للمبدأ المتقدم الذكر .
( [15] ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المادة 158 من المشروع التمهيدي على الوجه الآتي : ” 1 – إذا ابرم النائب عقداً في حدود نيابته وباسم الأصيل ، فإن ما ينشأ عن هذا العقد من حقوق والتزامات ينصرف إلى الأصيل مباشرة . 2 – ولمن يتعاقد مع النائب أن يطلب منه إثبات نيابته ، فإذا كانت النيابة ثابتة بعقد مكتوب ، فله أن يحصل منه على صورة مطابقة للاصل تحمل توقيعه ” . فأقرت لجنة المراجعة المادة بعد تعديلات لفظية ، وأصبح رقمها 108 في المشروع النهائي . ووافق مجلس النواب على المادة دون تعديل تحت رقم 108 . ولما عرضت على لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ ، وافقت اللجنة على الفقرة الأولى ، أما الفقرة الثانية فقد قررت حذفها للأسباب التي تقدم ذكرها ، وأصبح رقم المادة 105 . ووافق مجلس الشيوخ عليها كما عدلتها اللجنة ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 95 – ص 97 ) .
وانظر أيضاً المادة 30 من المشروع الفرنسي الايطالي . وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروعي التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : ” إذا كان شخص النائب هو الواجب الاعتداد به فيما يتعلق باتمام العقد ، فعلى النقيض من ذلك ينبغي أن يرجع إلى شخص الأصيل وحده عند تعيين مصير آثاره ، فالأصيل دون النائب هو الذي يعتبر طرفاً في التعاقد ، واليه تنصرف جميع اثاره ، فيكسب مباشرة كل ما ينشأ عنه من حقوق ، ويقع على عاتقه كل ما يترتب من التزامات . ولعل هذا الأثر المباشر أهم ما أحرز القانون الحديث من تقدم في شأن النيابة ” . ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 95 – ص 96 ) .
( [16] ) ومن هنا حرمت بعض الشرائع تعاقد الشخص مع نفسه لأن نظرية النيابة تقضي بأن النائب إنما يعبر عن إرادته هو لا عن إرادة الأصيل ، فاجتماع طرفي العقد في شخص واحد ، سواء كان نائباً عن كل منهما أو ناباً عن احدهما وأصيلاً عن نفسه ، يجعلنا من الوجهة الواقعية ومن الوجهة القانونية معاً أمام إرادة واحدة لا إرادتين . ومعروف أن العقد لا يتم إلا بتوافق إرادتين .
أما أنصار الإباحة فينقسمون إلى فريقين : فريق يرى أن تعاقد الشخص مع نفسه هو عقد حقيقي توافق فيه القبول مع الإيجاب ، ولكن شخصاً واحدا هو الذي عبر عن كل من الإيجاب والقبول طبقاً لمنطق نظرية النيابة ( بلانيول وريبير وإسمان 1 فقرة 68 ص 88 ) . وفريق آخر يرى أن تعاقد الشخص مع نفسه لا ينطوي إلا على إرادة منفردة جعلها القانون تنتج اثرا ( ديموج 1 فقرة 42 – فقرة 43 ) ، ونحن نميل إلى ترجيح هذا الرأي الثاني . ( انظر رأياً آخر للدكتور حلمي بهجت بدوي يتمشى فيه مع رأيه الذي سبقت الإشارة إليه من اشتراك إرادة الأصيل وإرادة النائب في إمضاء العقد إذا كانت النيابة اتفاقية ، ومن جعل اثر العقد حكما من أحكام القانون إذا كانت النيابة قانونية في مؤلفة ” أصول الالتزامات ” ص 124 – ص 125 ) .
( [17] ) نظرية العقد للمؤلف ص 231 – ص 236 .
( [18] ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المادة 161 من المشروع التمهيدي مع اختلال لفظي بسيط . وأقرته لجنة المراجعة بعد تعديلات لفظية جعلته مماثلا لنص المادة 108 ، وقدمته تحت رقم 111 وفي لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ تساءل أحد الاعضاء عن الجزاء عن مخالفة نص هذه المادة ، فأجيب بأنه لا يترتب على المخالفة البطلان وإنما لا يحتج بالعقد على الأصيل . وتساءل عضو آخر هل الترخيص السابق يغني عن الإجازة اللاحقة ، فكان الجواب بالإيجاب . واعترض على تحريم تعاقد الشخص مع نفسه بأن هذا يخالف القاعدة التقليدية ، فأجيب على هذا الاعتراض بأن القانون يشترط لتمام العقد تقابل إرادتين ، ولا ينطوي تعاقد الشخص مع نفسه إلا على إرادة واحدة ، فإما أن يكون الشخص وكيلا عن اثنين فيكون هناك تضارب في المصالح ، وإما أن يكون الشخص أصيلاً عن نفسه ووكيلا عن خيره فيكون التضارب اكبر ، لذلك نص على عدم إمكان تعاقد الشخص مع نفسه باسم من ينوب عنه . وقد وافقت اللجنة على بقاء المادة كما هي تحت رقم 108 . ووافق مجلس الشيوخ على المادة كما أقرتها اللجنة ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 105 – ص 108 ) .
وانظر في هذه المسألة المادة 37 من المشروع الفرنسي الإيطالي .
( [19] ) وهذا التطبيق الخاص وردت فيه نصوص صريحة في القانون الجديد . فقد نصت المادة 479 على أنه ” لا يجوز لمن ينوب عن غيره بمقتضى اتفاق أو نص أو أمر من السلطة المختصة أن يشتري بنفسه مباشرة أو باسم مستعار ولو بطريق المزاد العلني ما نيط به بيعه بموجب هذه النيابة ، ما لم يكن ذلك بإذن القضاء ومع عدم الاخلال بما يكون منصوصا عليه في قوانين أخرى ” . ونصت المادة 480 على أنه ” لا يجوز للسماسرة ولا للخبراء أن يشتروا الأموال المعهود إليهم في بيعها أو في تقدير قيمتها سواء أكان الشراء بأسمائهم أم باسم مستعار ” . ( ويلاحظ هنا أن السمسار والخبير انزلا منزلة النائب لاتحاد العلة ) . وجاء في المادة 481 : ” يصح العقد في الأحوال المنصوص عليها في المادتين السابقتين إذا أجازه من تم البيع لحسابه ” .
( [20] ) وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : ” يتصور أن يتعاقد الشخص مع نفسه في حالتين : فقد يكون الشخص طرفا في التعاقد لحساب نفسه من ناحية ، ومتعاقداً بالنيابة عن الطرف الآخر من ناحية أخرى ، وبذلك يتحقق التعارض بين مصالحه الشخصية ومصالح الأصيل . وقد يتعاقد الشخص بصفته نائباً عن الطرفين في أن واحد ، وفي هذه الحالة يكون عمله أقرب إلى معنى التحكيم منه إلى معنى النيابة ” . . وغنى عن البيان أن مصلحة الأصيل لا تتيسر لها ضمانات الحماية الواجبة في كلتا الحالتين ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 105 – ص 106 ) .
( [21] ) وقد جاء في هذه المذكرة ما يأتي : ” ولهذه العلة اعتبر تعاقد الشخص مع نفسه قابلا للبطلان لمصلحة الأصيل . . . ومن الواضح أن البطلان المقرر في هذا الشأن قد أنشيء بمقتضى نص خاص ” ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 106 ) .
( [22] ) وقد قضى قانون المحاكم الحسبية بأن تعين المحكمة وصياً خاصاً عند تعارض مصلحة القاصر مع مصلحة وليه أو عند تعارض مصالح القصر بعضها مع بعض ( م 12 ) . كما قضى بأنه ” اذا تعارضت مصلحة الاقصر مع مصلحة الوصي أو زوجه أو أحد اصوله أو فروعه أو من يمثله الوصيث ، ولم يبلغ هذا التعارض مبلغا يخشى معه على اموال القاصر طبقا للفقرة الرابعة من المادة 16 ، ففي هذه الحالة تقيم المحكمة وصيا خاصا ” . ويجوز كذلك تعيين وصي خصومة ولو لم يكن للقاصر مال ( م 17 ) .
( [23] ) وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي . ” ويجوز أن تقضي بعض نصوص التشريع أو بعض قواعد التجارة بصحة تعاقد الشخص مع نفسه . فمن ذلك بإباحة تعامل الولي ولده وفقاً لأحكام الشريعة الإسلامية ، وإباحة تعامل الوكيل بالعمولة باسم طرفي التعاقد وفقا لقواعد القانون التجاري ” . ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 106 ) .