شروط الإقرار وآثاره في نظام المرافعات السعودي.
فمن معاني الإقرار
في اللغة: الاعتراف، والإقرار في اصطلاح الفقهاء: “الإخبار عن ثبوت حقٍّ للغير على المُخبر، وهذا تعريف الجمهور، والإقرار من أقوى ما يُحكم به، وهو مقدَّم على البيِّنة؛ ولهذا يبدأ القاضي بسؤال المدَّعى عليه، فإن أقرَّ بالشيء المدَّعى به، لَم يَحتَجْ إلى طلب البيِّنة، فيبدأ القاضي بالسؤال عنه قبل السؤال عن الشهادة، على أنَّ حُجيَّته قاصرة على المقرِّ وحده؛ لقصور ولاية المُقر عن غيره، فيقتصر عليه، فلا يصحُّ إلزامُ أحدٍ بعقوبة نتيجة إقرار آخرَ بأنه شارَكه في جريمته”؛ الموسوعة الفقهية الكويتية (6 / 46) بتصرُّف.
وأما الحكم التكليفي للإقرار:
فالأصل في الإقرار بحقوق العباد الوجوب؛ لأنَّ أداء الحقوق إلى أهلها واجب؛ قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ﴾ [النساء: 58].
ولذا كان إقرارُ المرء بالحقِّ الذي عليه للغير متعينًا؛ ليُمكن إثباته، ولأن أداءَ حقوق الناس واجبٌ، وما لا يتمُّ الواجب إلا به، فهو واجب؛ ولذا فإنَّ على المسلم الاعتراف بما عليه من حقوق العباد، والمبادرة إلى الوفاء بها، دون إلجاء أصحابها إلى المخاصمة ورَفْع الأمر إلى القضاء؛ لِما في ذلك من براءة الذِّمة، والتخفُّف من حقوق العباد، قبل القدوم على الله تعالى الذي لا تَخفي عليه خافية.
وعن أبي هريرة أنَّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ((لتُؤَدُّنَّ الحقوق إلى أهلها يوم القيامة؛ حتى يُقاد للشاة الجَلحاء من الشاة القَرناء))؛ صحيح مسلم، (8 / 18)، والجَلحاء: التي لا قرنَ لها، مسند أحمد، مكنز (18/ 169).
وعن أبي هريرة عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((أتدرون مَن المفلس؟))، قالوا: المفلس فينا يا رسول الله، مَن لا له درهمَ ولا دينار، ولا متاع، قال: ((المفلس من أُمَّتى يوم القيامة مَن يأتي بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتَم عِرْض هذا، وقذَف هذا، وأكَل مال هذا، وضرَب هذا، فيَقعد فيَقْتَص هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فَنِيَت حسناته قبل أن يُقضى ما عليه، أُخِذ من خطاياهم، فطُرِح عليه، ثم طُرِح في النار)).
ولأن يُقِر المرء بالحق الذي عليه، ويُؤدِّيه لصاحبه، أو يَستسمحه، أو يَستمهله – خيرٌ من أن يُنكر ويُكابر، ثم تكون العاقبة وخيمة في الدنيا والآخرة؛ إذ إنَّ حقوق العباد مبنيَّة على المُشاحَّة والمطالبة، ولو أنصَف كلُّ إنسان من نفسه، لاستراح القضاة.
وقد ثبتَت حجيَّة الإقرار بالكتاب والسُّنة، والإجماع والمعقول.
أمَّا الكتاب، فقوله تعالى: ﴿ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ ﴾ [البقرة: 282].
أمَره بالإملال، فلو لَم يَقبل إقراره، لَما كان لإملاله معنًى، وقوله تعالى: ﴿ بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ﴾ [القيامة: 14]؛ أي: شاهد كما قاله ابن عباس.
وأما السُّنة: فما رُوِي أنه – عليه الصلاة والسلام – رجَم ماعزًا والغامديَّة بإقرارهما، فإذا وجَب الحد بإقراره على نفسه، فالمال أَوْلى أن يجبَ بالإقرار.
وأجمعَت الأُمَّة على أنَّ الإقرار حُجة قاصرة على المُقر؛ حتى أوجَبوا عليه الحدود والقِصاص بإقراره، والمال أَوْلى؛ قال الإمام ابن القيِّم – رحمه الله تعالى -: “الحكم بالإقرار يَلزم قبوله بلا خلافٍ”.
وأمَّا من النظر، فلأنَّ العاقل لا يُقِر على نفسه كاذبًا بما فيه ضررٌ على نفسه أو ماله، فترجَّحت جهة الصدق في حقِّ نفسه؛ لعدم التُّهمة، وكمال الولاية.
وأمَّا الأثر المترتِّب على الإقرار:
فهو ظهور ما أقرَّ به؛ أي: ثبوت الحقِّ في الماضي.
والأصل أنَّ الإقرار حُجَّة بنفسه، ولا يتوقَّف ثبوت الحق به على حُكم القضاء، فهو أقوى ما يُحكم به، وهو مقدَّم على البيِّنة؛ ولذا قيل: إنَّ الإقرار سيِّد الحُجج.
على أنَّ حجيَّته قاصرة على المُقر وحده؛ لقصور ولاية المُقر عن غيره، فيَقتصر عليه، فلا يصحُّ إلزام أحدٍ بعقوبة نتيجة إقرار آخرَ بأنه شارَكه في جريمته، وهذا ما جرى عليه القضاء في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- فقد رُوِي أنَّ رجلاً جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: إنه قد زنَى بامرأة – سمَّاها – فأرسَل النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المرأة فدَعاها، فسأَلها عمَّا قال، فأنكرَت فحدَّه وترَكها، وقد أخرَجه الإمام أحمد في المسند (5 / 339)، تعليق شعيب الأرناؤوط: “حديث حسن، وهذا إسناد ضعيف؛ لضَعْف مسلم بن خالد الزنجي”.
كما لا يُقبل إقرار المرء على غيره في الأمور المالية وغيرها؛ لأنَّ هذا لا يُعَدُّ إقرارًا وإنما هو شهادة، فله أن يؤدِّيها إن أرادَ، ويُطبق بحقِّها ضوابط الشهادة وشروطها.
ولأهميَّة الإقرار وأثره في الإثبات اشترَط الفقهاء شروطًا؛ كي يُعدَّ الإقرار موصلاً للحق، ومنها:
أن يكون المُقر مُكلَّفًا؛ أي: عاقلاً بالغًا، فلا يصحُّ إقرار الصغير والمجنون، والمَعتوه والنائم.
ويُقبل إقرارُ الصبي المميز في الأشياء اليسيرة التي يؤذَن له فيها، كشراء وبيع الأشياء اليسيرة التي جرَى العُرف على قَبول تعامل الصبي المُميز فيها.
ومن شروط الإقرار: فَهْم المُقر لِما يُقِرُّ به؛ أي: أن تكون الصيغة مفهومة للمُقر، فلو لُقِّن أعجمي كلمات عربية لا يَعرف معناها، لَم يُؤاخَذ بها.
ومن شروط الإقرار:الاختيار، فلا يُقبل إقرار المُكرَه؛ فعن ابن عباس – رضي الله عنهما – أن رسول -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إنَّ الله تجاوَز لي عن أُمَّتي الخطأ والنسيان، وما اسْتُكْرِهوا عليه))؛ رواه ابن ماجه، والبيهقي وغيرهما، وحسَّنه ابن رجب.