قراءة لحرية التعبير والعقيدة في أفق القانون المصري
يبدو الاعتماد المتبادل بين حرية التعبير وحرية العقيدة، في أن جوهر حرية العقيدة يكمن في اختيار العقيدة وممارستها بغير إكراه.
ومن دون حرية الإعلان عن الانتماء إلى عقيدة ما، فإن القدرة على اتباع تعاليم العقيدة المختارة ونقلها من جيل إلى جيل تبدو ناقصة. وهو ما يوضح أن حرية التعبير وحرية العقيدة ليستا متناقضتين أو متضادتين. بل إن حرية التعبير هي التي تكفل الدفاع ضد أعداء التنوع في الثقافات.
وهذا التنوع ينبع من الاختلاف في التفكير الديني، وكلاهما من خلال حرية التعبير يفتح المجال أمام إعلاء التجانس في التفاعل الاجتماعي والثقافي.
ولحرية التعبير بعدان: بعد شخصي يتمثل في أنه يتيح للفرد استكمال شخصيته من خلال التعبير عن نفسه، وبعد اجتماعي يتيح للفرد المشاركة في المسؤولية داخل المجتمع، ولهذا اعتبرت هذه الحرية إحدى الدعائم الأساسية للنظام الديموقراطي. وتفرض حرية العقيدة الدينية أن تلقى الاحترام من الآخرين الذين لا ينتمون إلى العقيدة ذاتها. ومن هذا المنطلق تتمتع حرية العقيدة بالبعدين نفسيهما: البعد الشخصي والبعد الاجتماعي.
ويشكل البعد الشخصي عنصر الاختيار في من يعتنق العقيدة حتى يستكمل شخصيته الإنسانية. أما البعد الاجتماعي فإنه يبدو في ذلك القدر من التسامح الذي يجب أن تحظى بها ممارسة هذه الحرية داخل المجتمع. ومن ذلك حرية المؤسسات الدينية (كالمسجد والكنيسة) داخل المجتمع في ممارستها، وحرية الفرد في إظهار دينه أو معتقده والتعبد وإقامة الشعائر والممارسة مع جماعة، وأمام الملأ.
إلا أن البعد الاجتماعي في كل من حرية التعبير وحرية العقيدة الدينية يثير مشكلة تتعلق بنطاق ممارسة حرية التعبير في ما يتعلق بمدى إمكان أن تتوغل هذه الممارسة في الحرية الدينية فتحدث مساسًا بها. فقد نشأت علاقة بالغة الحساسية بين الحريتين عندما ظهرت آراء معادية أو ناقدة للدين في بعض صور التعبير، أبداها البعض تحت ستار حرية التعبير. وتجلى ذلك في السنوات الأخيرة من خلال بعض الكتابات أو الرسوم الكاريكاتورية أو الأقلام التي تسيء إلى الدين.
وهدف التعديل الدستوري الصادر في 29 أزار (مارس) سنة 2007 في مصر إلى وضع حد للخلط بين المشاركة السياسية والحرية الدينية. ولما كانت الأحزاب السياسية والنشاطات السياسية عموماً ليست إلا تعبيراً عن الآراء السياسية، فقد نص ذلك التعديل على انه لا تجوز مباشرة أي نشاط سياسي أو قيام أحزاب سياسية بالاستناد الى مرجعية دينية أو أساس ديني، أو الى التفرقة بسبب الجنس أو الأصل. وأكد هذا التعديل الحرية الدينية من حيث عدم جواز تأثير ممارستها على من يريد المشاركة السياسية، ولا أن تكون أساساً للاختيار السياسي، نظراً إلى الفارق بين الحرية الدينية وحرية المشاركة السياسية، فالأولى عقائدية بحتة تمثل إيماناً فردياً بالذات الإلهية وترتبط بشخص الإنسان، والثانية إحدى وظائف الحكم التي يشارك فيها الأفراد وفقاً للنظام الديموقراطي.
وقد تكون هذه المشاركة من خلال الأحزاب السياسية أو من خلال الجمعيات في حدود نشاطاتها أو من خلال ممارسة حق الاجتماع في حدود القانون.
هذا إلى جانب أن الحرية الدينية لا يجوز أن تصبح أساساً للسيطرة السياسية لدين معين.
ولا بد أن نشير ابتداء إلى الدور الأساسي الذي تؤديه حرية التعبير في النظام الدولي لحقوق الإنسان، إيماناً بأن المآسي الإنسانية – بما في ذلك الإبادة الجماعية – تتطلب سيطرة عليها من خلال حرية التعبير لكشفها وإدانتها، وأن الالتزام بجميع حقوق الإنسان والتأكيد على اعتماد كل منها على الآخر حقيقة واقعة وليس مجرد خيار سياسي. وحرية التعبير هي أفضل دفاع ضد أعداء التنوع. فبهذه الحرية يمكن تربية الآخرين وفقاً لتقاليدهم الثقافية، وتعليمهم مختلف الثقافات حتى يمكن التغلب على أفكار عدم التسامح والتمييز.
ويلاحظ مثلاً أن المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان عنيت عام 1994 بأن تؤكد على زيادة مساحة تقدير الدول لتقييد حرية التعبير بقصد ممارسة الشعائر الدينية. إلا أن هذا المبدأ أثار عدداً من المشكلات القانونية التي تتمثل في التأكيد على الاحترام الضروري للمعتقدات الدينية، وفي التساؤل عن أساس حماية هذه المعتقدات، وهل هو النظام العام أم حماية حقوق الآخرين، أم الإشارة المباشرة إلى الحرية الدينية.
وقضت هذه المحكمة في 15 شباط (فبراير) 2001 برفض دعوى أقامتها إحدى المعلمات في مدرسة ابتدائية عامة بسبب عدم تمكينها من ارتداء الحجاب، ووضعت المحكمة في اعتبارها صغر سن الأطفال في المدرسة، وصعوبة تبرير فرض الحجاب على النساء، بالنظر إلى مبدأ المساواة بين الجنسين. وقضت هذه المحكمة في 3 أيار (مايو) 1993 بصحة اشتراط وضع صورة المرأة في بطاقة تحقيق الشخصية أو جواز السفر على نحو يكون وجهها ورأسها عاريين، ما يعني بطريقة ضمنية منع ارتداء الحجاب. وأسست المحكمة قضاءها على أن هذا الشرط جاء للحماية من أخطار تزوير الصورة وسوء استخدام بطاقة تحقيق الشخصية أو جواز السفر، وغلبت المحكمة بذلك فكرة النظام العام.
وقضت المحكمة نفسها في أول تموز (يوليو) عام1997 بعدم توافر انتهاك (بشأن حرية العقيدة التي كفلتها المادة التاسعة من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان) وقع على قاض عسكري أحيل إلى التقاعد بواسطة المجلس الأعلى للقوات المسلحة بناء على أن سلوكه ومواقفه توضح اعتناقه لآراء غير مشروعة. واستندت المحكمة في قضائها على أن النظام العسكري الذي انضم إليه الطاعن باختياره يتضمن بحسب طبيعته إمكان فرض قيود على بعض حقوق وحريات أعضاء القوات المسلحة مما لا تفرض على المدنيين. وبناء على ذلك يجوز وضع لوائح تأديبية للعسكريين تفرض أنواعاً معينة من السلوك في مواجهة النظام الذي يتفق مع ضرورات الخدمة العسكرية. ولم يكن الطاعن ينازع – في حدود القيود التي تفرضها الخدمة العسكرية- أنه كان يؤدي ويمارس واجباته الدينية بوصفه مسلماً، وخصوصاً إمكان تأدية الصلاة خمس مرات في اليوم، وممارسة سائر واجباته الدينية، وخصوصاً الصوم في رمضان والصلاة في المسجد يوم الجمعة.
لقد نشأت الأمم المتحدة على أساس أن الحوار يمكن أن يتغلب على الاختلاف. وهو ما يوجب تجنب سوء استخدام حرية التعبير كأداة للصراع الديني لأسباب اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية، أو أداة للسيطرة السياسية للفكر الديني.
ولهذا طالب البعض في ندوة الخبراء التي نظمها مجلس حقوق الإنسان في 2 و 3 تشرين الأول (أكتوبر) 2008 بالتزام الدولة تجريم الدعوة إلى كراهية الدين، سواء من طريق التمييز أو العداء أو العنف. ولوحظ أن تقييد حرية التعبير لمحاربة الدعوة إلى الكراهية الدينية لا يجوز اعتباره شراً لا بد منه، لأن هذا التقييد جاء لحماية حقوق الإنسان.
ونستخلص في ضوء المناقشات والآراء المختلفة التي دارت حول تجريم الدعوة إلى كراهية الدين مجموعة من المبادئ أهمها: التأكيد على العلاقة بين حرية التعبير والحرية الدينية، وأن الحرية الدينية تعتمد على حرية التعبير عن العقيدة الدينية، وأن عناصر (التعبير) تتجسد في إظهار الدين. وأن أية محاولة لتحليل العلاقة بين التعبير والدين يجب أن تضع في الاعتبار من يكتب التاريخ ولمن يكتبه، وأنه لا يجوز عند التأريخ الاعتماد على مصادر معينة دون غيرها. كما نستخلص أن الحريتين تعتمدان على درجة من التسامح والاحترام المتبادل والتنوع الذي يكمن في الوجود الإنساني الذي يتضمن من لا يؤمنون بالأديان. وأن المناقشة حول الكراهية الدينية دلت على أن التعبير الذي استخدم للتدليل عليه ينصرف إلى عدم احترام المقدسات، وأنه يجب قراءة نصوص حقوق الإنسان معا، واضعين في الاعتبار مبدأ المساواة وعدم التمييز. ويجب أن تظل القيود الواردة على ممارسة الدين أو التعبير على سبيل الاستثناء وليست على سبيل القاعدة. وفي الخلاصة كذلك أن فكرة الحض على الكراهية تقترب من فكرة (التحريض العام)، وأن اصطلاح (الكراهية) لا يعني عدم القبول، بل يعني درجة كبيرة من الازدراء.
ومن ذلك أيضاً أن تجريم فعل الدعوة إلى كراهية الدين المشار إليه في المادة 20/2 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية لا يجوز أن يتم في غيبة عن توافر عنصر النية لدى مرتكب الجريمة. كما ينبغي تأكيد وجوب احترام النقد البناء، واعتبار التنوع الديني جزءاً من التراث المشترك للإنسانية.
وأخيراً فإنه إذا كانت الحرية الدينية لم تكفل حماية الأديان في ذاتها، فإنه لا يمكن حماية الرموز الدينية من السب أو الإساءة في نطاق حماية الحرية الدينية، وإنما يجب اعتبار النقد أو التعليق المبني على التمييز أو الإهانة أو السخرية من الدين، تجاوزاً للحق في الحرية الدينية، طالما أدت هذه الأعمال إلى التأثير بطريقة سلبية
في مختلف مظاهر الحرية الدينية للمؤمنين بالأديان.
وبالنسبة إلى الدستور المصري، فإن النص على الديانة الرسمية للدولة في المادة (2) منه يكمله نص المادة 46 التي نصت على حرية العقيدة وحرية ممارسة الشعائر الدينية. وقد أكّدت المحكمة العليا في مصر أن المشرّع التزم في جميع الدساتير المصرية مبدأ حرية العقيدة، وحرية إقامة الشعائر الدينية باعتبارهما من الأصول الدستورية الثابتة المستقرة في كل بلد متحضر، فلكل إنسان أن يؤمن بما يشاء من الأديان والعقائد التي يطمئن إليها ضميره، وتسكن إليها نفسه، ولا سبيل لأي سلطة عليه في ما يدين به في قرارة نفسه وأعماق وجدانه. وأكدت المحكمة الدستورية العليا انعدام الأثر القانوني للنص على ديانة رسمية للدولة في ما قالته من أنه لا يجوز في مفهوم الحق لحرية العقيدة، أن تيسر الدولة – سرا أو علانية – الانضمام إلى عقيدة ترعاها، إرهاقاً لآخرين من الدخول في سواها، ولا أن يكون تدخلها بالجزاء عقاباً لمن يلوذون بعقيدة لا تصطفيها، وليس لها بوجه خاص إذكاء صراع بين الأديان تمييزاً لبعضها على البعض.
وفي أي حال، فإن النص الدستوري على ديانة رسمية للدولة لا يبدو مؤثرًا في حرية التعبير إلا في المدارس العامة المملوكة للدولة حيث تكفل الدولة بحسب الأصل تدريس ديانتها الرسمية، من دون إخلال بحرية من يعتقدون بديانات أخرى في تلقي تعاليم ديانتهم والتزام الدولة بتمكينهم من ذلك وفقاً لمبدأ حرية العقيدة ومبدأ اعتبار التربية الدينية مادة أساسية في مناهج التعليم العام (المادة 9 من الدستور المصري)، وطبقاً لمبدأ المواطنة الذي تقوم عليه الدولة طبقاً للمادة الأولى للدستور المصري، ومبدأ المساواة الذي كفلته المادة 40 من الدستور. وطبقاً لمبدأ حرية العقيدة الذي كفلته المادة 46 من الدستور نفسه، فإنه لا تأثير للديانة الرسمية للدولة على التمتع بسائر الحقوق والحريات التي نص عليها الدستور. هذا من دون إخلال بحق الدولة في إقامة الاحتفالات الرسمية الدينية المتعلقة بالإسلام واعتبار الأعياد الدينية عطلة رسمية. ومع ذلك راعت الحكومة اعتبار عيد الأقباط في 7 كانون الثاني (يناير) من كل عام عطلة رسمية مراعاة للشعور الديني لطائفة الأقباط. كما عنى المسؤولون الرسميون في الحكومة بمشاركة الأقباط في الاحتفال بعيدهم.
ولا يجوز في الوقت ذاته الخلط بين معتقدات أهل كل دين والقيم الأخلاقية والمثل العليا والفضائل التي تصنع نسيج الثقافة التي يتحلى بها من يؤمنون بدين معين. فهذه القيم – وليس مجرد المعتقدات الدينية في ذاتها – لا بد أن يهتدي بها الناس في سلوكهم من دون أن يمثل ذلك أية سيطرة سياسية لدين معين، ونظراً إلى أن الأديان كلها تشترك في قيم معينة يقوم بها مبدأ التسامح الذي أخذت به الأديان السماوية، وتقديراً لذلك نص الدستور المصري في المادة (9) منه على أن الأسرة قوامها الدين والأخلاق والوطنية.
وتجدر الإشارة في هذا المقام إلى مغزى نص المادة 2 من الدستور المصري على أن مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيس للتشريع، وهو الأمر نفسه في دساتير الإمارات العربية المتحدة والبحرين والسودان (يطبق على ولايات الشمال)، ونص الدستور السوري على أن الفقه الإسلامي مصدر رئيسي للتشريع (المادة 3/1)، ونص الدستور العماني على أن الشريعة الإسلامية هي أساس التشريع (المادة الأولى)، ونص الدستور القطري على أن الشريعة الإسلامية مصدر رئيسي لتشريعاتها (المادة الأولى)، ونص الدستور العراقي على أنه لا يجوز سن قانون يتعارض مع ثوابت أحكام الإسلام (المادة 2 أولاً).
على أنه إذا كانت الشريعة الإسلامية لها طابع ديني لا شك فيه، باعتبارها جوهر الدين الإسلامي، إلا أنها تستقل عن الطابع العقائدي الديني الأصيل في أنها نظام تشريعي. ولهذا كان من المتصور أن تطبق الشريعة الإسلامية في مجتمع غير إسلامي، أو في المجتمع الإسلامي على غير المسلمين من أفراده، وعلى الأجانب الذين يوجدون على أرضه، بالنظر إلى طابعها الحضاري وسندها المنطقي وقيمها الاجتماعية من دون إخلال بمبدأ حرية العقيدة الدينية.
وتأكيداً للطابع التشريعي للشريعة الإسلامية عنيت المحكمة الدستورية العليا بتحديد المقصود بمبادئ الشريعة الإسلامية، بأنها الأحكام الشرعية القطعية في ثبوتها ودلالتها، باعتبار أن هذه الأحكام وحدها هي التي يكون الاجتهاد فيها ممتنعاً، ومن غير المتصور أن يتغير مفهومها بتغير الزمان والمكان. أما الاجتهاد فتنحصر دائرته فى الأحكام الظنية غير المقطوع بثبوتها أو بدلالتها أو بهما معاً. ولما كانت مبادئ الشريعة الإسلامية نظاماً تشريعياً على رغم طابعها الديني، فإن تناولها بالتفسير يدخل في نطاق حرية التعبير عموماً وليس في نطاق حرية التعبير الديني، أو حرية العقيدة الدينية. وغني عن البيان أن اعتبار الشريعة الإسلامية مصدراً رئيسياً للتشريع لا يخل بواجب الدولة في كفالة حرية العقيدة الدينية بالنسبة إلى العقائد الدينية الأخرى.