كيفية إصدار الأحكام في المملكة العربية السعودية.
لا شكَّ أنَّ إصدار الحُكم في القضيَّة هو الثمرة المقصودة من إقامة الدعوى، وهو النتيجة النهائية لأيِّ مرافعة يُواصل طرفاها – المدَّعي، والمدَّعى عليه – السيرَ فيها.
وإصدار الحُكم في الخصومات هو الهدف الرئيس في نَصب القضاة وإنشاء المحاكم؛ إذ لا ثمرة تُفيد في إطالة الأمَد في التقاضي، دون التوصُّل إلى حكمٍ يَقطع الخصومة، ويُنصف طرَفي القضية من بعضهما.
والقضاء في اصطلاح علماء الشرع:
“تبيينُ الحُكم الشرعي، والإلزام به، وفصل الحكومات”.
وعودة إلى الباب العاشر من نظام المرافعات، ففي الفصل الأول المُخصَّص للحديث عن إصدار الأحكام، جاء في المادة الثامنة والخمسين بعد المائة: (متى تمَّت المرافعة في الدعوى، قضَت المحكمة فيها فورًا، أو أجَّلَت إصدار الحكم إلى جلسة أخرى قريبةٍ، تُحدِّدها مع إفهام الخصوم بقفل باب المرافعة، وميعاد النُّطق بالحُكم).
وتأمَّل كيف نصَّ النظام على سرعة إصدار الحكم، متى تمَّت المرافعة في الدعوى، واستوفَت أركانها وبيِّناتها، واتَّضح الحكم فيها، وهذا هو الواجب والأصل الذي لا يُسوغ للقاضي أن يَحيد عنه؛ إذ إن في تأخير الحُكم بعد استبانته ظُلمًا لصاحب الحقِّ بتأخير حصوله على حقِّه، بل وفيه ظلمٌ أيضًا لِمَن عليه الحقُّ؛ لأن في ذلك إشغالاً لذِمَّته بحقِّ الغير، و(مَطْلُ الغني ظلمٌ)؛ كما قال – صلى الله عليه وسلم.
وأما إذا لَم يتَّضح الحكم فورَ انتهاء المرافعة، واحتاج القاضي إلى تأجيل إصدار الحُكم لأسبابٍ مشروعة؛ كالحاجة إلى مزيدٍ من التأمُّل ومراجعة أقوال الطَّرَفين، أو للحاجة إلى تمحيص بعض الأدلَّة والبيِّنات، أو احتياج القاضي إلى مراجعة النصوص الشرعيَّة والنظاميَّة؛ لتضمينها نصَّ الحكم، أو لكون القاضي في حالٍ لا يَستطيع فيها البتَّ في القضية؛ إما لانشغال بَدَنه، أو ذِهنه بما يُشوِّش عليه ويَمنعه من إمعان النظر في القضيَّة واستحضارها، وخاصة إذا كانت المرافعة طويلة مُعقَّدة، والبيِّنات متعارضة متقابلة، ونحو ذلك من الأسباب التي يُسوغ معها تأجيلُ البتِّ في القضية، ففي هذه الحال يُحدِّد القاضي موعدًا للنُّطق بالحكم في جلسة قريبة، مع إفهام الخصوم بهذا الموعد، وقفل باب المرافعة.
وتَبرز ثمرة إفهام الخصوم بقفل باب المرافعة في اعتبار الحكم حضوريًّا، حتى لو تخلَّف المحكوم عليه عن حضور الجلسة؛ كما هو منصوص المادة الخامسة والخمسين من نظام المرافعات.
وقد أوضَحت لائحة المادة الثامنة والخمسين بعد المائة أنه إذا حدَّد القاضي موعدًا للنُّطق بالحكم، ثم ظهَر له ما يقتضي تقديم الجلسة أو تأخيرها – فله ذلك مع إعلان الخصوم به حسب إجراءات التبليغ، وتدوين ذلك في الضَّبْط.
وأمَّا المادة التاسعة والخمسون بعد المائة:
فقد أوضحَت كيفيَّة المداولة في الحكم، إذا تعدَّد القضاة الناظرون في القضيَّة، ونصُّها: (إذا تعدَّد القضاة، فتكون المداولة في الأحكام سريَّة، وباستثناء ما ورَد في المادة الحادية والستين بعد المائة، لا يجوز أن يَشترك في المداولة غير القضاة الذين سَمِعوا المرافعة).
والمراد بالمداولة في الحكم:
ما يَحصل بين القُضاة ناظري القضيَّة من المناقشة والمحاورة فيما بينهم، حول القضيَّة وأقوال الطرفين، ودفوعاتهما ونتائج المرافعة، وتقييم البيِّنات، وقد نصَّ النظام على كونها سريَّةً؛ لِما في إعلانها من إساءَة الظنِّ بالقضاة أو أحدهم، أو كونها تلقينًا لبعض الخصوم بالحُجَّة.
كما أنَّ هذه المداولة لا تَعني صدور الحكم؛ ولذا جاء في لائحة هذه المادة: (لا يكون الحكم معتبرًا بانتهاء المداولة، ما لَم يتمَّ ضبطُه والنُّطق به).
وأما المادة الستون بعد المائة:
فقد أوضَحت حكمًا مهمًّا، يَخفى على كثيرٍ من المترافعين ومراجعي المحاكم، ونصُّها: (لا يَجوز للمحكمة أثناء المداولة أن تسمعَ توضيحات من أحد الخصوم، إلاَّ بحضور الخَصم الآخر).
ففي بعض الأحيان يَعمد أحد الخصوم إلى محاولة الدخول على القاضي أو القُضاة، خلال المداولة في الحكم، أو خلال جلسات النظر في القضيَّة، طامعًا في مقابلة القاضي ومناقشته في قضيَّته، مع غياب الخصم الآخر، مُؤمِّلاً في إقناع القاضي برأْيه وحُجَّته، ولِما في ذلك من مخالفة مبدأ العلانية في التقاضي، والإجحاف بحقِّ الخصوم في سماع أقوال خصومهم ومناقشتهم للقاضي – مَنَع النظام من ذلك، ولا ريبَ أنَّ في ذلك حفظًا لعِرض القاضي، ومنعًا من إساءة الظنِّ به؛ إذ إنَّ مبنى الحكم وسبَبَه – من دعوًى، أو دَفعٍ، أو بيِّنةٍ – يجب أن يكون مُعلَنًا ظاهرًا لدى الطرفين، والأصل في الحقوق المُشاحة والمطالبة.
ولهذا درَج القضاة المُنصفون على منْع الخَصم من الحديث عن قضيَّته في غياب خصمه، إلاَّ في الأمور الطارئة التي لا تؤثِّر على سير القضيَّة، ولا يكون هدفُ الخَصم فيها التأثيرَ على القاضي، كما لو طلَب أحد الخصوم تأجيلَ موعدٍ ما لظرفٍ طارئ، أو طلَب مخاطبة إحدى الجهات الحكوميَّة في أمر يتعلَّق بالقضيَّة، ونحو ذلك.
ولذا وجَب على الخصم الامتثالُ إذا منَعه القاضي من الحديث عن قضيَّته في غياب خَصمه؛ لأن القاضي مأمورٌ بالعدل والإنصاف في الصغير والكبير، كما لا يُلام القاضي إذا حرَص على إبراء ذمَّته ومَنْع قالةِ السوء عنه.
يُروى عن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – قوله: “مَن عرَّض نفسه للتُّهمة، فلا يَلومَنَّ مَن أساءَ به الظنَّ”.