مشتملات النفقة كحق من حقوق الزوحة – بحث مقارن معاصر
مقدمة
من محاسن هذه الشريعة المباركة عمومها وشمولها لأحوال المكلفين في كل زمان ومكان، ومما جاءت الشريعة بتنظيمه على أحسن الوجوه وأتمها: العلاقة بين الزوجين، فقد أسستها على قواعد المودة والرحمة والتعاون والتكافل، وجعلت لكل واحد من الزوجين حقوقاً بإزاء الواجبات التي ناطتها به، ثم أمرت الطرفين بالعفو والمحاسنة والتفضل بما لا يجب عليه فعله من المعروف(1) استبقاء لرابطة الزوجية، قال تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة:237]، ومن الواجبات التي ناطتها الشريعة بالزوج: نفقة الزوجة، قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء:34]. وهذا الموضوع من الموضوعات التي اعتنى بها الفقهاء في القديم والحديث، فلا يخلو كتاب فقه من مناقشة مسائل النفقات بعامة والنفقة الزوجية بخاصة، كما تنشغل المحاكم كثيراً بمعالجة قضايا النفقة ومسائلها الشائكة التي لا تفتأ تثير الإشكالات وتتفاوت فيها أنظار القضاة كغيرها من المسائل المنوطة بالعرف كمسائل الحرز في السرقة وإحياء الموات وزيارة المحضون والعقوبات التعزيرية. كما أن هذا الموضوع مظنة وقوع الجور والتجاحد بين الأزواج في كل عصر ومصر، يقول ابن نجيم بعد أن بسط الكلام في مسائل النفقة الزوجية: “وإنما أكثرنا من هذه المسائل تنبيهاً للأزواج لما نراه في زماننا من تقصيرهم في حقوقهن – أي الزوجات – حتى إنه يأمرها بفرش أمتعتها جبراً عليها وكذلك لأضيافه وبعضهم لا يعطي لها كسوة حتى كانت عند الدخول غنية [ثم] صارت فقيرة، وهذا كله حرام لا يجوز، نعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا” [البحر الرائق (11/243)]، ولم تزل قضايا النفقة الزوجية محل عناية القانونيين ومثار خلاف بينهم، فلا تخلو كتب القانون وقوانين الأحوال الشخصية ومدونات الأسرة في الدول الحديثة من تناول قضايا النفقة الزوجية. ولهذه الأسباب كان موضوع النفقة الزوجية حقيقاً بالتحقيق والتأصيل، خصوصاً أنه ذو علاقة مباشرة باستقرار الأسرة التي هي اللبنة المؤسسة للمجتمع، فعقدت العزم على تحرير مسائله في هذا البحث، والسؤال الذي يعالجه هذا البحث: ما مدى مشروعية إلزام الزوج بنفقة العلاج لزوجته إذا مرضت وهي في عصمته، وما ضابط ما يجب في النفقة، وهل يشمل قيمة الزينة والخدمة والترفيه أم لا؟، وما المرجع في تحديد نفقة الزوجة في العصر الحاضر، وقد أسميته “نفقة الزوجة في العصر الحاضر”، وخصصت المبحث الأول للحديث عن مفهوم النفقة على الزوجة وحكمها، والمبحث الثاني عن نفقة العلاج للزوجة، والمبحث الثالث عن نفقة الزينة والخدمة والترفيه،والمبحث الرابع عن أثر عمل الزوجة خارج المنزل على نفقتها، والمبحث الخامس عن المرجع في تحديد النفقة الزوجية في العصر الحاضر، ثم الخاتمة، وقد انتهجت فيه الوصفي الاستقرائي لآراء المذاهب الفقهية، والمنهج التحليل في النقد والترجيح، سائلاً الله تعالى أن يوفقنا لسداد القول وصلاح العمل، وصلى الله على نبينا محمد وآله وأزواجه وذريته.
المبحث الأول: مفهوم النفقة على الزوجة وحكمها:
المطلب الأول: مفهوم النفقة لغة واصطلاحاً:
أ – النفقة في اللغة:
النفقة اسم من المصدر: نَفْق، يقال: نَفَقَت الدراهم نَفْقاً: أي نفدت، وجمع النفقة: نِفَاق، مثل رَقَبَة ورِقَاب، وتجمع على نَفَقَات(2)، وأشار بعضهم إلى معنى النفقة بحسب الاستعمال اللغوي العام فقال هي: الإدرار على شيء بما فيه بقاؤه(3)، وهذا يقرب من المعنى الفقهي للنفقة.
ب – النفقة في الاصطلاح:
عرفت النفقة فقهاً بتعريفات كثيرة، أشير إلى أهمها ثم أورد التعريف المختار.
قيل هي: “الطعام والكسوة والسكنى”(4)، وهذا التعريف غير جامع؛ لأنه اكتفى بالمهمات، وأهمل بعض مشمولات النفقة مع أهمية الإشارة إليها، مثل أدوات النظافة والفرش والخادم لمن تحتاجه وتوابع هذه الأشياء.
وقيل هي: “ما به قوام معتاد حال الآدمي دون سرف”(5).
وهذا التعريف أعم من نفقة الزوجة، فهو غير مانع، إذ تدخل فيه نفقة الأولاد والمملوك.
وقيل هي: “معاوضة في مقابلة التمكين والاستمتاع”(6).
وهذا التعريف وإن كان مختصاً بنفقة الزوجة لأنه نص على التمكين والاستمتاع، لكنه لم يتعرض لموضوع النفقة وموجباتها.
وقيل هي: “كفاية من يمونه خبزاً وأدماً وكسوة ومسكناً وتوابعها”(7). وهذا التعريف مع شموله، إلا أنه طوَّ ما حقه الاختصار، ولو اقتصر على الطعام دون تسمية الخبز والأدم لكان أولى، فضلاً عن عدم تقييده بالمعروف ولهذا فيستدرك عليه أيضاً ترك التنصيص على الخادم.
التعريف المختار:
والتعريف الذي يصدق على النفقة على الزوجة خاصة لأنها موضوع بحثنا أن نقول: (هي كفاية الزوجة طعاماً وكسوة وسكنى وتوابعها بالمعروف) وهذا التعريف قريب من تعريف الحنابلة الآنف الذكر مع تعديل طفيف.
(كفاية الزوجة): هذا ضابط لمقدار النفقة، فليس لها قدر محدد، بل تختلف باختلاف الزمان والمكان والشخص والأسعار، والمهم تحقيق قدر الكفاية للزوجة.
(طعاماً وكسوة وسكنى) هذه الثلاثة أهم ما يصدق عليه اسم النفقة فلهذا نص عليها.
(وتوابعها بالمعروف) ليدخل فيه ما يتعارف الناس على أنه من الاحتياجات الأساسية للزوجة كالحاجيات المتممة لما سبق، وكالعلاج من الأمراض في عصرنا الحاضر على القول الراجح كما سيأتي بيانه بإذن الله، وكتوفير الخادم إذا كان مثلها يخدم وطلبته، وهو ما سيناقشه هذا البحث في موضعه بإذن الله.
والنفقة لها أسباب ثلاثة عند الفقهاء: الزوجية والقرابة والملك(8)، وسوف يكون بحثنا هذا خاصاً بالسبب الأول وهو الزوجية.
المطلب الثاني: حكم النفقة على الزوجة:
اتفق الفقهاء على وجوب إنفاق الزوج على زوجته في الجملة(9)، وثبت هذا الوجوب بالكتاب والسنة والإجماع والمعقول، وفيما يأتي بيان ذلك:
أ – دليل النفقة من الكتاب:
1 – قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:233].
وجه الاستدلال: الآية نص في وجوب النفقة على الزوجة، وإنما نص على وجوب النفقة عليها حال الولادة ليدل على “أن النفقة تجب لها حال اشتغالها عن الاستمتاع بالنفاس؛ لئلا يتوهم متوهم أنها لا تجب لها”(10) أي في حال النفاس، أي أنها تستحق النفقة ولو لم تكن محلاً للاستمتاع بسبب عذر النفاس.
2 – قوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء:34].
وجه الاستدلال: أن الله تعالى بيّن أنه فضّل الرجال على النساء وجعلهم أهل قيام عليهن بسبب “سَوْقهم إليهنّ مهورهن، وإنفاقهم عليهن أموالهم، وكفايتهم إياهن مُؤَنهن، وذلك تفضيل الله تبارك وتعالى إياهم عليهن”(11)، فدل على مشروعية النفقة على الرجل لزوجته.
ب – دليل النفقة من السنة:
1 – عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته في حجة الوداع: فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف”(12).
وجه الاستدلال: ظاهر، فقد نص على أن للزوجات على أزواجهن النفقة بالرزق والكسوة بالمعروف.
2 – عن عائشة رضي الله عنها أن هند بنت عتبة رضي الله عنها قالت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح وليس يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم، فقال: “خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف”(13).
وجه الاستدلال: رخص النبي صلى الله عليه وسلم لهند بأن تأخذ من مال زوجها مقدار النفقة الواجبة لها ولولدها، وهو ما يكفيها وولدها بالمعروف، وهي فتيا تدل على استحقاق الزوجة النفقة من زوجها.
ج – دليل النفقة من الإجماع:
اتفق الفقهاء على وجوب نفقة الزوجة في مال زوجها ما لم تكن ممتنعة منه، وذلك أن تمكنه من نفسها وأن تكون مطيقة للوطء وغير ناشز، إلا إذا كان الامتناع لسبب مشروع فتكون معذورة حينئذ، وقد حكى الإمام ابن المنذر وغيره اتفاق أهل العلم على وجوب نفقات الزوجات على أزواجهن إذا كانوا بالغين إلا الناشز منهن(14). وأما نفقة الزوجة الغنية على زوجها الفقير فقد انفرد ابن حزم بأن الزوجة الغنية تكلف بالإنفاق على زوجها الفقير(15)، وخالف بذلك قول جمهور الفقهاء، والصحيح أنه لا يجب عليها بل يستحب لها ذلك وتؤجر عليه، وعليه أن يتعفف عن مالها ما استطاع ولا تتشوف نفسه لشيء من مالها ما لم تطب نفسها بذلك، وقد قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} الآية [النساء:34].
د – دليل النفقة من المعقول:
دل المعقول على استحقاق الزوجة النفقة في مال زوجها من وجهين:
أولهما: أن الأزواج قوامون على زوجاتهم، فهذا حق يقابله التزام بالإنفاق، وهو ما قرره ربنا تبارك وتعالى في قوله: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} الآية [النساء:34]، “والقيم على غيره هو المتكفل بأمره”(16) بما في ذلك النفقة وهو ما أكدته الآية بذكر إنفاق الرجال من أموالهم على أزواجهم.
ثانيهما: أن الزوجة محبوسة المنافع على زوجها، وممنوعة من التصرف لحقّه في الاستمتاع بها، فوجب لها مؤنتها ونفقتها، كما يلزم الإمام في بيت المال نفقات أهل النفير؛ لاحتباس نفوسهم على الجهاد(17).
المبحث الثاني: نفقة علاج الزوجة:
لا يخفى أن توفير الزوج أجرة العلاج لزوجه من مظاهر المودة والرحمة التي هي من مقاصد عقدة النكاح وبها تتم استدامته، ومع هذا فقد اختلف الفقهاء في وجوب ذلك على الزوج قضاء، وذلك كما يأتي:
القول الأول:
عدم وجوب ثمن الدواء وعدم وجوب أجرة الطبيب على الزوج(18)، وإنما تجب في مال الزوجة أو من تلزمه نفقتها، وإلى هذا ذهب جمهور الفقهاء، مستندين في ذلك إلى ما يأتي:
أ – قوله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق:7].
وجه الاستدلال: أن الله تعالى ألزم الزوج بالنفقة المستمرة على زوجته، وليست نفقة العلاج داخلة تحتها؛ لأنها من الأمور العارضة(19).
ب – أن شراء الأدوية وأجرة الطبيب إنما تراد لإصلاح الجسم، فلا تلزم الزوج(20).
القول الثاني:
أن أجرة التطبيب وثمن الدواء واجب في مال الزوج بالمعروف، وإلى هذا القول ذهب الشوكاني(21)، وجمع من المعاصرين(22)، واحتجوا بعموم النصوص الواردة بالنفقة، ومنها حديث: ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف”(23).
ووجه الاستدلال: أن الصيغة عامة لأنها مصدر مضاف وهي من صيغ العموم(24).
ولأن وجوب النفقة عليه هي لحفظ صحتها والدواء من جملة ما تحفظ به صحتها(25)، فالدواء لحفظ الروح فأشبه النفقة(26).
واستظهر الدكتور وهبة الزحيلي من المعاصرين أن المداواة لم تكن فيما مضى حاجة أساسية، فلا يحتاج الإنسان غالباً إلى العلاج؛ لأنه يلتزم قواعد الصحة والوقاية، فاجتهاد الفقهاء مبني على عرف قائم في عصرهم، “أما الآن فقد أصبحت الحاجة إلى العلاج كالحاجة إلى الطعام والغذاء، بل أهم؛ لأن المريض يفضل غالباً ما يتداوى به على كل شيء، وهل يمكنه تناول الطعام وهو يشكو ويتوجع من الآلام والأوجاع التي تبرح به وتجهده وتهدده بالموت؟!”(27)، لذا فإنه يرى وجوب نفقة الدواء على الزوج كغيرها من النفقات الضرورية، ويجعلها نظير وجوب نفقة الدواء اللازم للولد على الوالد بالإجماع، ويتساءل د. الزحيلي: “هل من حسن العشرة أن يستمتع الزوج بزوجته حال الصحة، ثم يردها إلى أهلها لمعالجتها حال المرض؟!”(28).
الترجيح:
النصوص ناطت موضوع النفقة على معنى الكفاية والمعروف، وهذان المعنيان يختلفان باختلاف الزمان والمكان والحال، فقد تتحقق الكفاية لكن لا يكون معروفاً لدى أهل البلد المعين، فلا بد من مراعاة العرف في ذلك المحل، قال أبو العباس ابن تيمية: “الصواب المقطوع به عند جمهور العلماء أن نفقة الزوجة مرجعها إلى العرف وليست مقدرة بالشرع”(29) ا.هـ، وهذا ما عليه الأمة علماً وعملاً، قديماً وحديثاً، وهي تتنوع بتنوع حال الزوجين(30). وفي عصرنا الحاضر صار العلاج من الأمراض من جنس الضروريات التي لا يكاد يستغني عنها إنسان، وذلك لكثرة الأمراض وتراجع المناعة وتلاحق التلوث البيئي. ومما يؤيد هذا أن الفقهاء الذين لم يلزموا الزوج بأجرة الطبيب قالوا: “لو مرض القريب وجب أجرة الطبيب على قريبه”(31)، فالزوجة مثله، ولا فرق مؤثر هنا.
وتأسيساً على هذا فإن عقد النكاح في عصرنا الحاضر يقتضي إلزام الزوج بمعالجة زوجته، فأما إذا اشترط العلاج في العقد فلا إشكال في وجوبه لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} الآية [المائدة:1]. وأما إذا كان العقد مطلقاً فإنه يجب تفسيره بما يتعارفه الناس في الزمان والمكان، والناس قد تعارفوا في زماننا هذا على أن الزوج يتكفل بنفقة علاج زوجته، فمن تزوج امرأة على كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فمقتضى هذه الصيغة إلزام الزوج بما يلزمه به العرف السائد في بلده؛ لأن الكتاب والسنة قد أحالا على العرف، فهذا هو موجب العقد المطلق، لهذا قال أبو العباس ابن تيمية: “والمعروف فيما له ولها هو موجَب العقد المطلق، فإن العقد المطلق يرجع في موجَبه إلى العرف، كما يوجب العقد المطلق في البيع النقد المعروف(32)، فإن شرط أحدهما على صاحبه شرطاً لا يحرم حلالاً ولا يحلل حراماً فالمسلمون عند شروطهم؛ فإن موجَبات العقود تتلقى من اللفظ تارة ومن العرف تارة أخرى”(33) ا.هـ.
ولعل عدول الفقهاء رحمهم الله عن إلزام الزوج بنفقة العلاج لزوجته مردُّه إلى ثلاثة أمور:
أولها: أن النساء في القديم كن يعالجن أنفسهن بأنفسهن غالباً، فتقوم المرأة بتركيب الدواء المناسب بما يتوفر من الأعشاب الطبية المعروفة في تلك الأزمنة، ولم تكن مضطرة إلى الذهاب إلى الطبيب، كما أنه لم تكن للأطباء حوانيت وعيادات منتشرة في كل مكان كحالهم اليوم. ولهذا ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم كانت تعالجه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بما ينعته له حكماء العرب(34).
ثانيها: أن الطب في العصور الماضية لم يكن متقدماً كحاله اليوم لا في إجراءاته ولا في نتائجه، بل كان مبنياً على ظنون وتجارب منقوصة وغير منهجية غالباً، وربما اختلط بشيء من الشعوذة والسحر، حتى كان يطلق أحياناً على السحر: الطب، ومنه قول ابن الأسلت(35):
ألا مَن مُبلِغٌ حسّانَ عني *** أطِب كان داؤك أم جنونُ(36)
وفي حديث عائشة رضي الله عنها: “أن النبي صلى الله عليه وسلم طُب”(37) أي سُحر، وهذا يشير إلى اختلاط أعمال التطبيب بما ليس منه من أعمال غير مرضية شرعاً كالسحر. ولعله لأجل هذا التدني في مستوى الطب القديم واختلاطه بغيره ذهب جمهور الفقهاء إلى أن التداوي لا يعدو أن يكون مباحاً(38)، وكان بعض الفقهاء تكون به العلل فلا يخبر الطبيب توكلاً على الله تعالى، كما فعله الإمام أحمد رحمه الله فيما نقل عنه(39)، وهؤلاء الأئمة يرون أن من تمام التوكل ترك التداوي لمن قدر عليه، وهذا بالطبع لا يليق إلا بذوي المقامات العالية في الزهد والعلم والعمل، ولا يصح تعميم هذا الرأي على عموم الأمة رجالها ونسائها. ومع هذا فلا يسلم بأن ترك التداوي أفضل وأتم للتوكل، بل إن بذل أسباب التداوي هو من تمام التوكل لا العكس، ولهذا كان نبينا صلى الله عليه وسلم يتداوى وهو سيد المتوكلين، قال ابن القيم: “وفي الأحاديث الصحيحة الأمر بالتداوي وأنه لا ينافي التوكل كما لا ينافيه دفع داء الجوع والعطش والحر والبرد بأضدادها، بل لا تتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها الله مقتضيات لمسبباتها قدراً وشرعاً، وأن تعطيلها يقدح في نفس التوكل كما يقدح في الأمر والحكمة ويضعفه من حيث يظن معطلها أن تركها أقوى في التوكل، فإن تركها عجز ينافي التوكل الذي حقيقته اعتماد القلب على الله في حصول ما ينفع العبد في دينه ودنياه ودفع ما يضره في دينه ودنياه، ولا بد مع هذا الاعتماد من مباشرة الأسباب وإلا كان معطلاً للحكمة والشرع، فلا يجعل العبد عجزه توكلاً ولا توكله عجزاً”(40) ا.هـ.
ثالثها: عدم اعتبار العلاج من الضروريات المستمرة، وإنما هو عارض طارئ، وهم يشترطون كفايتها – أي الزوجة – في الحوائج الدائمة، ولهذا عبر إمام الحرمين بلسانهم إذ قال في معرض كلامه عن نفقة الخادم: “وعلى الفقيه ألا يغفل نظره عن الرواتب من هذه الأمور، وعما يطرأ بعارض”(41)، وزاد هذا وضوحاً في موضوع آخر فقال: “والأمراض عوارض لا ترتب لها، فلم ير الشرع اعتبارها”(42) ا.هـ، أي أن النفقة منوطة بما هو دائم لا بما هو طارئ، ونوط النفقة بما هو دائم دون العارض يفتقر إلى دليل يدل عليه، والعمومات في الباب لا تساعد عليه، والله أعلم.
وقد اتجهت مدونات قوانين الأسرة والأحوال الشخصية إلى إلزام الزوج بعلاج زوجته في حال مرضها، كما في القانون المصري (م100) لسنة 1985م، ومدونة الأسرة المغربية رقم 70.03 (م189)(43)، والقانون الليبي عام (1984م) (م22)(44)، وقانون الأسرة الجزائري لعام (1404هـ) (م78)(45)، هذه المدونات نصت على أن العلاج من مشمولات النفقة الزوجية، في حين نجد أن القانون الموريتاني لم يصرح بوجوب نفقة العلاج وإنما عبر بعبارة محتملة، ونصه: “تشمل النفقة الطعام والكسوة والمسكن وما يعد من الضروريات في العرف”، ولم ينص صراحة على العلاج، وعلى هذا يكون تقدير مرجعه إلى القضاء المختص عند النزاع.
ومما يرد السؤال عنه في هذا العصر: هل يلزم الزوج أن يقوم بالتأمين الصحي عن زوجته ما دمتم ألزمتم الزوج بنفقة العلاج لزوجته؟ والجواب أن يقال:
أولاً: في حال توفر التأمين الصحي التكافلي: ففي هذه الحال يلزم الزوج التأمين إلا إذا كان قادراً على علاجها في حال مرضها بدون تأمين، وعليه ففي الدول التي تكون تكاليف العلاج باهظة ويعجز عنها الزوج فيلزمه التأمين؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
ثانياً: في حال عدم توفر التأمين التكافلي: ففي هذه الحال لا يجوز له التأمين إلا في صورة ما إذا ألزمه ولي الأمر أو نائبه من الجهات المختصة في البلد، وأما إذا كان عاجزاً عن توفير العلاج لزوجته بدون تأمين، ولا يتوفر التأمين التكافلي في البلد، فحينئذ يتوجه القول بعدم إلزامه بالتأمين؛ لأن نفقة الزوجة منوطة بالمعروف، والتأمين التجاري ليس من المعروف، على أن يتكفل بما يستطيع من نفقة العلاج قدر وسعه بالمعروف، والله تعالى أعلم.
ومما اختلف فيه الفقهاء من متعلقات النفقة أجرة القابلة(46)، وسبب الخلاف أمران:
أولهما: هل أجرة القابلة من قبيل أجرة العلاج أم من قبيل مؤونة الجماع والاستمتاع ونفع الولد، فمن ألحقها بأجرة الطبيب جعلها على الزوجة، ومن ألحقها بمؤونة الجماع والاستمتاع ونفع الولد جعلها على الزوج(47).
وثانيهما: هل القابلة مما تستغني عنه الزوجة أم لا؟، فإن كانت تستغني عنها فالأجرة عليها، وإن كانت لا تستغني عنها فالأجرة على الزوج(48).
والأقوال كما يأتي:
القول الأول: أن أجرتها على من استأجرها من زوج أو زوجة، وهو قول الحنفية.
ويحتج لهم بأنه متردد في الشبه بين فرعين: أجرة العلاج ومؤونة الجماع(49).
القول الثاني: أن أجرتها على الزوج، وهو قول للمالكية ومذهب الشافعية.
واحتجوا بقوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:233]، وبأنه مؤونة الجماع والاستمتاع ونفعها للولد(50).
القول الثالث: أن أجرتها على الزوجة، وهو قول للمالكية.
واحتجوا بأمرين:
الأول: قوله تعالى: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا} [الأحقاف:15].
وجه الاستدلال: أن الله تعالى أخبر عن الأم أنها هي تحمل الولد وتضعه، فوجب أن تكون مؤنة ذلك كله عليها، ولا يكون على الأب منه إلا ما أوجب الله عليه من النفقة عليها إلى أن تضعه(51).
بالقياس على أجرة الطبيب، فكما لا تلزمه أجرة الطبيب إذا مرضت فكذا لا تلزمه أجرة القابلة(52).
والراجح:
أن أجرة القابلة على الزوج؛ لأنها من الحاجات الضرورية اليوم، فهي من المعروف الذي جاءت به أدلة النفقة، وكذلك لها تعلق بولده منها، ولقوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء:34].
ويتخرج على هذا الفرع وجوب أجرة المستشفى وما يتبعه من علاج وأدوية في العصر الحاضر، في حال إجراء عملية الولادة، فتكون على الزوج.
المبحث الثالث: نفقة النظافة والزينة والخدمة والترفيه:
المطلب الأول: نفقة النظافة:
ذهب الفقهاء إلى أنه يجب للزوجة على زوجها ما تحتاج إليه من أدوات النظافة كالمشط والدهن لرأسها والسدر أو نحوه مما تغسل به رأسها، وما يعود بنظافتها من آلات التنظيف على عادة أهل البلد(53). وعلل بعضهم ذلك بالقياس على وجوب تنظيف الدار المستأجرة على المستأجر(54)، وهذا التوجيه بعيد، والأقرب أن يقال إن هذا مما جرت العادة بافتقار المرأة إليه(55).
المطلب الثاني: نفقة الزينة:
ذهب فقهاء المذاهب إلى أنه لا يجب على الزوج ثمن الطيب إذا كان للتلذذ والاستمتاع(56)، لأنه حق له، فلا يجب عليه ما يدعوه إليه، بخلاف ما يراد به قطع الرائحة الكريهة فإنه يلزمه عندهم(57)، كما قرروا أنه إذا طلب منها أن تتزين له لزمه أن يوفر لها ذلك ولزمها استعماله حينئذ(58)، واختلفوا فيما عدا ذلك من الزينة المعتادة التي تزيل الشعث، وذلك كما يأتي:
القول الأول: لا يلزم الزوج نفقة الزينة لزوجته: وبه قال الحنفية والشافعية وهو المذهب عند الحنابلة(59).
القول الثاني: يلزم الزوج الزينة التي تضار الزوجة بتركها: وبه قالت المالكية، وهو وجه عند الحنابلة(60)، وذهب ابن حمدان منهم إلى أنها تلزمه إذا طلبت الزوجة ذلك(61).
استدل الجمهور بأن قالوا: الزينة ليست من قبيل الضروريات للمرأة، وغايتها إمتاع الرجل، فإذا لم يطالب بها لم يلزمه ثمنها(62).
واستدل المالكية بقوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19]، قالوا: إن من مقتضيات المعروف أن يفرض لها ما تحتاجه من الزينة مما اعتاده أهل البلد(63)، ولأن المرأة تتضرر بترك الزينة المعتادة فلزمه توفير الكحل والدهن المعتادين، وكذا الحناء المعتاد لشعرها لا ليديها؛ لأنه للشعر يراد به إزالة الشعث فهو ملحق بالضروري، بخلاف حناء اليدين الذي هو زينة محضة(64)، والعبرة في كل هذا بما يتعارف عليه أهل الزمان، ولهذا قال الحطاب عن عدم إلزام مالك للزوج بتوفير الحناء لزوجته: “وعرف أهل الحجاز في الحناء كما ذكر ابن رشد عن نسائهم لا يمشطون بها فلا يقضى بها عندهم”(65) ا.هـ.
الترجيح:
يظهر لي رجحان مذهب المالكية، وأنه يلزم الزوج في هذا العصر توفير الزينة المعتادة لزوجته إذا كان قادراً، ويحصل الإجزاء بتوفير ما يزيل عنها الشعث ويرفع عنها معرة التبذل، وهو الحد الأدنى من الزينة دون إجباره على ما زاد عن هذا الحد، ويدل لذلك أمران:
الأول: أن النفقة منوطة بالعرف، وقد جرت العادة في عصرنا هذا على التزام الزوج بتوفير زينة زوجته، ومن لا يقوم بذلك يعد في العرف مقصراً في النفقة، خصوصاً مع توسع النساء اليوم في التزين بالمساحيق الباهظة الثمن، فالعدل أن يوفر للزوجة الحد الأدنى من ذلك.
الثاني: الزوجة تتضرر بعدم استعمال ما يزينها أمام زوجها، فربما لو رآها متبذلة يزهد فيها، فحاجتها إلى الزينة حاجة دائمة نابعة من فطرتها وليست استثنائية، قال تعالى: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف:18]ن وإذا ثبت تضررها بذلك فإن الضرر في الشريعة يزال. واشتراط قدرة الزوج هنا يعني أنه إذا عجز عنها تسقط عنه لكونها ليست من الضروريات، وذلك كما لو كان معسراً وكانت الزينة المعتادة تجحف بماله، وهذا من تفاريع قاعدة: الضرر لا يزال بالضرر(66). ويؤيد هذا أن الحنابلة صرحوا باستثناء ما لو طلب الزوج منها التزين فحينئذ يلزمونه بنفقة الزينة وهو ما نبه عليه غير واحد(67)، وعادة الرجال في زماننا طلب ذلك من الزوجة، والله تعالى أعلم.
المطلب الثالث: نفقة الخدمة:
اختلف الفقهاء رحمهم الله في مسألة نفقة الخادم، هل تلزم الزوج أم لا؟، وذلك على قولين:
القول الأول: ذهب جمهور الفقهاء إلى أن المرأة إن كانت ممن لا تخدم نفسها لكونها من ذوات الأقدار، أو كانت ممن لا يليق بها خدمة نفسها بأن كانت مخدومة في بيت أبيها، أو لكونها مريضة: فإنه يلزم الزوج أن يهيئ لها خادماً وتلزمه نفقته، بخلاف ما لو لم تكن كذلك، بأن كانت ممن تخدم نفسها بنفسها، فلا يلزم الزوج توفير الخادم حينئذ(68)، بل ذكر الحنابلة وغيرهم أنه يلزم الزوج توفير من يؤنس زوجته، وذلك فيما إذا كانت بمكان مخوف، ويجعلون ذلك من موجبات المعاشرة بالمعروف(69).
القول الثاني: ذهب ابن حزم إلى أنه ليس على الزوج أن ينفق على خادم زوجته، قال: “ولو أنه ابن الخليفة وهي بنت الخليفة”(70)، إنما عليه أن يقوم لها بمن يأتيها بالطعام والماء، مهيأ ممكناً للأكل – غدوة وعشية -، وبمن يكفيها جميع العمل من الكنس والفرش، وعليه أن يأتيها بكسوتها كذلك(71).
أدلة القول الأول: استدل جمهور الفقهاء على وجوب توفير خادم بما يأتي:
أ – قوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19].
وجه الاستدلال: أن من العشرة بالمعروف أن يقيم لها خادماً، لأنها مما يحتاج إليه في الدوام فأشبه النفقة(72).
ويناقش هذا الاستدلال بأن الآية الكريمة غير صريحة في إلزام الزوج بخادم، غاية ما هنالك أنه يلزمه إحسان صحبة زوجته، وهذه حاصلة بدون إخدامها.
ب – ما روي في حديث هند بنت عتبة رضي الله عنها حين قالت: إن أبا سفيان رجل شحيح… الحديث، فقد جاء في رواية قولها: “وليس لي منه إلا ما أدخلَ علي بيتي”(73).
وجه الاستدلال: كأنهم فهموا من هذه الرواية أنه يدخل عليها من تخدمها، كذا قرر بعض الفقهاء(74).
ويناقش هذا بأنه ليس بظاهر ظهوراً بيناً، فإن هذا اللفظ يحتمل ما ذهبوا إليه، ويحتمل أنه يدخل عليه مؤونة دون ما تحتاجه، والله تعالى أعلم.
ج – قياساً على نفقة الأب على ابنه، فإنه لما وجب على الأب نفقة الابن، وجب عليه أجرة من يخدمه، وهو من يحضنه، فكذا الزوج لزوجته(75).
ويناقش بأنه قياس مع الفارق، فإن الابن مضطر إلى من يحضنه، بخلاف الزوجة فهي غير مضطرة إلى خادم غالباً.
أدلة القول الثاني: استدل ابن حزم بأنه لم يأت نص قط بإيجاب نفقة خادم الزوجة على زوجها، فإيجاب نفقة الخادم على الزوج ظلم وجور(76)، ولأن الواجب عليه أن يقوم عليها بمن يقدم لها الطعام مهيأ ممكناً للأكل، فهذه هي صفة الرزق والكسوة الواردة في النص، قال: “ولم يأت نص قط بإيجاب نفقة خادمها عليه، فهو ظلم وجور”(77).
الترجيح:
لا بد من القول بأنه ليس لدينا دليل صريح في إلزام الزوج بتوفير خادم لزوجته أصلاً، حتى قال ابن المنذر: “ليس في وجوب نفقة خدم المرأة أصل يعتمد عليه، من حديث يجب قبوله، وإنما هو شيء قاله أهل العلم، فيفرض من ذلك لخادم واحد، وهو أقل ما قيل، ويوقف ما زاد على ذلك”(78) ا.هـ، وقال ابن رشد الحفيد: “ولست أعرف دليلاً شرعياً لإيجاب النفقة على الخادم إلا تشبيه الإخدام بالإسكان، فإنهم اتفقوا على أن الإسكان على الزوج للنص الوارد في وجوبه للمطلقة الرجعية”(79) ا.هـ، ولا يخفى أن هذا التشبيه فيه بعد، للفرق بين الإسكان والإخدام، فالأول ضروري والثاني حاجي.
إذا ثبت هذا فإن مرجع النفقة عند النزاع: العرف العام في البلد، فإن تعارف الناس على أن تخدم الزوجة بخادم وكانت الزوجة من سروات الناس(80) ممن يخدم مثلها، وكان الزوج موسراً فيلزم بذلك، فلا، ويشهد لذلك أيضاً ما رواه ابن أبي ليلى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنها، اشتكت ما تلقى من الرحى في يدها وأتى النبي صلى الله عليه وسلم سبي، فانطلقت فلم تجده، ولقيت عائشة رضي الله عنها فأخبرتها فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته عائشة بمجيء فاطمة إليها، قالت: فجاء النبي صلى الله عليه وسلم إلينا وقد أخذنا مضاجعنا، فذهبنا نقوم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “على مكانكما”، فقعد بيننا، حتى وجدت برد قدمه على صدري، ثم قال: “ألا أعلمكما خيراً مما سألتما، إذا أخذتما مضاجعكما أن تكبرا الله أربعا وثلاثين، وتسبحاه ثلاثاً وثلاثين، وتحمداه ثلاثاً وثلاثين، فهو خير لكما من خادم”(81).
ووجه الشاهد من الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يلزم علياً رضي الله عنه بإحضار خادم لزوجه رضي الله عنها، مع شرفها رضي الله عنها وتضررها بعدمه؛ لأن العرف حينئذ لا يلزمه بذلك، ولكونه معسراً.
وفي عصرنا الحاضر صار من عادة معظم الأسر في بلادنا توفير خادم تساعد الزوجة في عمل البيت، وعلى هذا فإن طلبت الزوجة خادماً وكانت ممن يخدم في بيت أهلها، فإنه يلزم الزوج توفير خادم.
وهل يشترط يسار الزوج في إخدام زوجته، أم يلزم توفير الخادم مطلقاً، اختلف الفقهاء في ذلك على قولين:
القول الأول: ذهب الحنفية والمالكية وبعض الحنابلة إلى أنه ليس على الزوج المعسر نفقة خادم، وإن كان لها خادم قبل ذلك(82). واحتجوا بأن الواجب على الزوج المعسر من النفقة أدنى الكفاية، والخادم يقصد للكمال والترفيه، ولأن الضرر لا يزال بمثله(83).
القول الثاني: ذهب الشافعية وأكثر الحنابلة إلى أنه لا يشترط يسار الزوج، بل يرون استواء الموسر والمعسر لمن لا يليق بها خدمة نفسها(84). واحتجوا بأنه كسائر المؤن، يجب في حال اليسار والإعسار(85).
الترجيح :
الراجح أنه يشترط أن يكون الزوج مقتدراً موسراً ليلزم بنفقة الخادم، فإن كان عاجزاً فلا يلزمه لأنه وجب على سبيل المواساة وهي قدر زائد على الوفاء بالضروريات، فالنفس تقوم من غير خادم(86)، وما كان هذا سبيله يسقط مع العجز، والقاعدة أن الضرر لا يزال بالضرر(87)، والله تعالى أعلم.
__________________________
(*) بحث منشور في مجلة قضاء الصادرة من الجمعية العلمية القضائية السعودية.
(1) الطبري، محمد بن جرير، جامع البيان في تأويل القرآن (5/164)، ت: أحمد شاكر، بيروت، مؤسسة الرسالة، ط أولى، 1420هـ.
(2) ابن منظور، لسان العرب، مادة (نفق) (10/357).
(3) ابن عابدين؛ محمد علاء الدين أفندي، حاشية الدر المختار (3/573)، دار الفكر، بيروت، 1421هـ.
(4) الحصكفي؛ محمد علاء، الدر المختار شرح تنوير البصار (3/572)، دار الفكر، بيروت، 1986م.
(5) الصاوي؛ أبو العباس أحمد بن محمد الخلوتي، حاشية الصاوي على الشرح الصغير 2/729، دار المعارف.
(6) الهيتمي؛ أحمد بن محمد بن علي، تحفة المحتاج في شرح المنهاج (8/302)، بيروت، دار إحياء التراث، 1357هـ.
(7) البهوتي؛ منصور بن يونس، شرح منتهى الإرادات (5/649)، ت: د. عبد الله التركي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط أولى، 1421هـ، أبو النجا الحجاوي؛ الإقناع (4/136).
(8) الحصكفي؛ الدر المختار (3/572)، النووي؛ أبو زكريا محيي الدين، روضة الطالبين (9/40)، المكتب الإسلامي؛ بيروت، 1405هـ.
(9) وقولي: في الجملة؛ لأنهم اختلفوا في مواضع أهمها: نفقة الناشز، فذهب الجمهور إلى أنه لا نفقة لناشز، وخالفهم ابن عبد الحكم وابن حزم، ينظر: أبو بكر محمد بن إبراهيم بن المنذر؛ الإشراف على مذاهب العلماء (5/154)، ت: أبو حماد صغير بن أحمد الأنصاري، مكتبة مكة الثقافية، رأس الخيمة، ط أولى، 1428هـ، أبو محمد علي بن أحمد بن حزم؛ مراتب الإجماع (90)، دار الآفاق الجديدة، بيروت، ط ثالثة، 1402هـ، الهداية بأعلى فتح القدير (3/321) ط التجارية، وحاشية ابن عابدين على الدر المختار (3/572)، المواق؛ محمد بن يوسف العبدري، التاج والإكليل (4/181-182)، النووي؛ أبو زكريا محيي الدين يحيى بن شرف، روضة الطالبين وعمدة المفتين (9/40)، والإنصاف 9/376.
(10) العمراني؛ أبو الحسين يحيى بن أبي الخير الشافعي؛ البيان في مذهب الإمام الشافعي (11/185)، اعتنى به قاسم محمد النوري، مكتبة المنهاج، بيروت، ط أولى، 1421هـ.
(11) الطبري؛ جامع البيان في تأويل القرآن (8/290).
(12) أخرجه مسلم (3009).
(13) متفق عليه، أخرجه البخاري (5364)، ومسلم (4574).
(14) ابن قدامة؛ أبو محمد عبد الله بن أحمد المقدسي، المغني (9/230)، دار الفكر، بيروت، ط أولى، 1405هـ.
(15) ابن حزم، المحلى (9/254).
(16) ينظر: الماورد؛ أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري، الحاوي الكبير (11/415)، دار الفكر، بيروت.
(17) العيني، أبو محمد محمود بن أحمد بدر الدين، البناية شرح الهداية (5/660)، بيروت، دار الكتب العلمية، 1420هـ، الماوردي؛ الحاوي الكبير (11/417).
(18) ابن عابدين؛ حاشية رد المحتار على الدر المختار (3/575)، الدسوقي؛ محمد بن أحمد بن عرفة، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (2/511)، بيروت، دار الفكر، الرملي؛ شمس الدين محمد بن أحمد، نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج (7/195)، بهامشه حاشيتا الشبراملسي والرشيدي، المطبعة البهية المصرية، ط أولى، 1403هـ، البهوتي؛ منصور بن يونس بن صلاح الحنبلي، كشاف القناع عن متن الإقناع (5/536)، بيروت، دار الكتب العلمية.
(19) الكاساني؛ علاء الدين أبو بكر بن مسعود، بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (4/20)، بيروت، دار الكتب العلمية، ط ثانية، 1406هـ، حاشية الدسوقي (2/511)، البهوتي؛ منصور بن يونس، شرح منتهى الإرادات (5/652)، ت: عبد الله التركي، بيروت، مؤسسة الرسالة، ط أولى، 1421هـ.
(20) الشربيني؛شمس الدين محمد بن أحمد الخطيب، مغني المحتاج (3/431)، بيروت، دار الكتب العلمية، ط أولى، 1415هـ، ابن قدامة، المغني (9/235)، البهوتي، كشاف القناع (5/463).
(21) السيل الجرار (2/448).
(22) ستأتي الإشارة قريباً إلى ذلك.
(23) أخرجه مسلم، وقد تقدم تخريجه قريباً.
(24) خان؛ صديق حسن، الروضة الندية (2/79)، بيروت، دار المعارف.
(25) الشوكاني؛ محمد بن علي بن محمد، السيل الجرار (1/460)، دار ابن حزم، بيروت، ط أولى.
(26) صديق حسن خان، مرجع سابق (2/79).
(27) الزحيلي؛ وهبة، الفقه الإسلامي وأدلته (10/110)، دمشق، دار الفكر، ط رابعة.
(28) نفسه.
(29) ابن تيمية؛ أحمد بن عبد الحليم، مجموع الفتاوى (34/83)، ت: عبد الرحمن بن قاسم، المدينة المنورة، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، 1416هـ.
(30) نفسه (34/85).
(31) الزركشي، خبايا الزوايا (395).
(32) والنقد يختلف من بلد إلى بلد ومن عصر إلى عصر.
(33) نفسه (3/91).
(34) الحاكم؛ أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن حمد النيسابوري، المستدرك على الصحيحين (4/218)، بيروت، دار الكتب العلمية، 1411هـ، ابن الملقن؛ سراج الدين أبو حفص عمر بن علي بن أحمد الشافعي، مختصر استدراك الحافظ الذهبي على مستدرك أبي عبد الله الحاكم (6/2744)، ت: عبد الله اللحيدان وسعد الحميد، الرياض، دار العاصمة، 1411هـ، والحديث حسنه المحقق لغيره، وينظر: ابن مفلح؛ شمس الدين أبو عبد الله محمد بن مفلح المقدسي، الآداب الشرعية والمنح المرعية (2/395)، عالم الكتب.
(35) ابن الأسلت، اختلف في اسمه فقيل: صيفي وقيل: الحارث، واسم أبيه الأسلت: عامر بن جشم بن وائل الأوسي، شاعر جاهلي كان يحض قومه على الإسلام واختلف في إسلامه، ينظر: ابن حجر؛ أحمد بن علي العسقلاني، الإصابة في معرفة الصحابة (7/334)، بيروت، دار الجيل، 1412هـ.
(36) ابن منظور؛ لسان العرب، مادة (طبب) (1/553).
(37) أخرجه البخاري (6391)، ومسلم (43).
(38) هذا قول الحنفية والمالكية والحنابلة، وذهب الشافعية والقاضي وابن عقيل وابن الجوزي من الحنابلة إلى استحبابه لما ورد من الحث عليه، ومحل الاستحباب عند الشافعية إذا لم يقطع بإفادته، لكن لو قطع بإفادته كعصب محل القصد فإنه واجب عندهم، ينظر: ابن عابدين، الحاشية (5/215)، النفراوي؛ أحمد بن غنيم، الفواكه الدواني (2/440)، بيروت، دار الفكر، 1415هـ، البهوتي، كشاف القناع (2/76)، ابن مفلح، الآداب الشرعية (2/359).
(39) ابن مفلح، الآداب الشرعية (2/359).
(40) ابن القيم؛ محمد بن أبي بكر بن أيوب، شمس الدين ابن قيم الجوزية، زاد المعاد في هدي خير العباد (4/14)، بيروت، مؤسسة الرسالة، ط 27، 1415هـ.
(41) الجويني؛ أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله بن يوسف، نهاية المطلب في دراسة المذهب (15/444)، ت: د. عبد العظيم الديب، دار المنهاج، جدة، ط أولى، 1428هـ.
(42) نفسه باختصار يسير (15/449).
(43) د. محمد الشافعي؛ قانون الأسرة في دول المغرب العربي (304)، المطبعة والوراقة الوطنية، مراكش، ط أولى، 2009م.
(44) نفسه ص(227).
(45) نفسه ص(252).
(46) ابن الهمام، فتح القدير (4/387)، مواهب الجليل (4/184)، مغني المحتاج (3/430)، ولم أجد للحنابلة تصريحاً عن حكم نفقة القابلة، والقابلة: المرأة التي تولّد النساء، يقال: قبلت القابلة الولد: تلقته عند خروجه، قِبالة، والجمع: قوابل، ابن منظور، لسان العرب، مادة (قبل) (11/534).
(47) ابن الهمام، فتح القدير (4/387).
(48) أبو الوليد ابن رشد، البيان والتحصيل (8/466).
(49) ينظر المرجع السابق.
(50) أبو الوليد ابن رشد، البيان والتحصيل (8/466).
(51) المرجع السابق.
(52) ابن الهمام، فتح القدير (4/387).
(53) الكاساني، بدائع الصنائع (4/20)، والدسوقي، حاشية الدسوقي (2/511)، الشربيني، مغني المحتاج (3/431)، والمرداوي؛ الإنصاف (9/262).
(54) المطيعي؛ تكملة المجموع (18/253)، المرداوي؛ الإنصاف (9/262).
(55) البهوتي؛ شرح منتهى الإرادات (5/652)، ابن قاسم؛ حاشية الروض المربع (7/111).
(56) وفي وجه للحنابلة يلزمه ثمن الطيب، ينظر: إبراهيم بن مفلح؛ المبدع شرح المقنع (8/166).
(57) الفتاوى الهندية (1/549)، والتاج والإكليل (4/182)، ومغني المحتاج (3/430)، والمغني (9/235).
(58) البهوتي؛ شرح منتهى الإرادات (5/652).
(59) ابن عابدين؛ حاشية رد المحتار (3/579)، الرملي؛ نهاية المحتاج (6/247)، البهوتي؛ شرح منتهى الإرادات (5/652).
(60) الحطاب، مواهب الجليل (5/546)، المرداوي؛ الإنصاف (9/262).
(61) ابن حمدان؛ نجم الدين أحمد بن حمدان الحراني؛ الرعاية (2/1146)، ت: د. علي الشهري، بدون معلومات النشر.
(62) ابن قدامة؛ المغني (11/208).
(63) الشنقيطي؛ تبيين السالك (3/234).
(64) الدردير؛ الشرح الكبير (2/510)، النفراوي؛ الفواكه الدواني (3/1076).
(65) مواهب الجليل (5/546).
(66) الزركشي؛ المنثور في القواعد (2/321).
(67) ابن قدامة؛ عبد الرحمن بن محمد المقدسي، الكبير على متن المقنع (9/236)، بيروت، دار الكتاب العربي، المرداوي؛ الإنصاف (9/262).
(68) ابن نجيم؛ البحر الرائق (4/212)، الحطاب، مواهب الجليل (4/184)، ابن قدامة، المغني (9/233)، البهوتي؛ شرح منتهى الإرادات (5/652).
(69) قالوا: ويكفي أن يقوم هو بتأنيسها بنفسه إذا تحقق المقصود، البهوتي؛ شرح منتهى الإرادات (5/654)، ابن نجيم؛ البحر الرائق (4/212)، والعجيب أن الفقهاء رحمهم الله يلزمون الزوج بتوفير خادم لزوجته المريضة في حين أنهم لا يلزمونه بنفقة علاجها، مع أن العلاج أولى لأن الحاجة إليه أشد غالباً.
(70) المحلى (9/251).
(71) المصدر السابق.
(72) القرطبي؛ أبو عبد الله محمد بن أحمد، الجامع لأحكام القرآن (5/97)، دار الكتب المصرية، ط ثانية، 1984م، محمد بن أحمد بن قدامة، الشرح الكبير (9/236).
(73) أخرجه أحمد في مسنده (24117)، والحميدي في مسنده (242)، والبيهقي في معرفة السنن والآثار (19807) من حديث سفيان عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها، وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين وأصله في الصحيحين، البخاري (5364)، ومسلم (1714)، وينظر: الذهبي، تنقيح التحقيق (2/225).
(74) ينظر: العمراني؛ البيان (11/189).
(75) العمران؛ البيان (11/211).
(76) المحلى (9/251).
(77) المرجع نفسه.
(78) الإشراف (5/158).
(79) بداية المجتهد (3/77).
(80) سروات الناس: أشرافهم، ابن منظور، لسان العرب، مادة (سرا) (14/377).
(81) أخرجه البخاري (3502)، ومسلم (7090).
(82) ابن عابدين؛ حاشية رد المحتار (3/588)، الحطاب؛ مواهب الجليل (5/546)، المرداوي؛ الإنصاف (9/263).
(83) ينظر ما سبق.
(84) الشربيني؛ مغني المحتاج (5/161)، ابن قدامة؛ المغني (9/235)، البهوتي؛ كشاف القناع (5/463).
(85) الشربيني، مغني المحتاج (5/161).
(86) العمراني، البيان في مذهب الإمام الشافعي (11/222).
(87) الزركشي؛ المنثور (1/227).