مفهوم الشهادة في نظام المرافعات السعودي.
الشهادة إحدى وسائل الإثبات في التقاضي، ولها أهميَّتها البالغة في إثبات المدَّعى به، ولنقف يسيرًا عند الشهادة وأبرز أحكامها في الفقه الإسلامي، قبل أن نَلج فيما يتعلَّق بالشهادة في نظام المرافعات وإجراءات التقاضي.
فمن معاني الشهادة في اللغة: البيان والإظهار لِما يَعلمه، وشرعًا: إخبار عن ثبوت الحقِّ للغير على الغير في مجلس القضاء.
واتَّفَق الفقهاء جميعًا على أنَّ الشهادة من طرق القضاء؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ ﴾ [البقرة: 282].
وقوله – صلى الله عليه وسلم -: ((البيِّنة على المدَّعي، واليمين على مَن أنكَر))، وقد أجمَعت الأُمَّة على أنها حُجَّة يُبنى عليها الحكم.
والشهادة حُجَّة شرعيَّة تُظهر الحقَّ ولا تُوجبه، ولكن تُوجب على الحاكم أن يَحكمَ بمقتضاها؛ لأنها إذا استوْفَت شروطها مُظهرة للحقِّ، والقاضي مأمور بالقضاء بالحق.
وسبب أداء الشهادة:
طلب المدَّعي الشهادة من الشاهد، أو خوف فَوْت حقِّ المدَّعي إذا لَم يعلم المدَّعي كونه شاهدًا.
وأما حُكمها: فللشهادة حالتان: حالة تحمُّل، وحالة أداء.
فأما التحمُّل – وهو أن يُدْعى الشخص ليَشهد ويحفظَ الشهادة – فهو فرضُ كفاية؛ إذا قام به البعض، سقَط عن الباقين، فإن تعيَّن – بحيث لا يوجد غيره – كان فرضًا عليه، ومثال ذلك: لو كان زيد حاضرًا في مجلس فيه رجلان أبْرَما عقدَ مبايعة مثلاً، وطلَبا من زيد أن يشهدَ، وليس في المجلس سواه، فهنا يجب على زيد أن يتحمَّل الشهادة؛ أي: أن يَضبط هذا التعاقد وشروطه؛ كي يشهدَ به عند الحاجة.
وأما الأداء – وهو أن يُدْعى الشخص ليَشهد بما عَلِمه – فإنَّ ذلك واجبٌ عليه؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا ﴾ [البقرة: 282]، وقوله تعالى: ﴿ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ﴾ [البقرة: 283].
ولأن الشهادة أمانة، فلَزِم أداؤها كسائر الأمانات، والله تعالى يقول: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ﴾ [النساء: 58].
فإذا كان الشهود أكثرَ من واحدٍ، وقام بها العدد الكافي، سقَط الإثم عن الجماعة، وإن امتنَع الجميع، أثِمُوا كلُّهم؛ لأنها واجبة على الكفاية، وإنما يَأْثَم المُمتنع من أداء الشهادة إذا لَم يتضرَّر بأداء الشهادة، وكانت شهادته تَنفع، فإذا تضرَّر في التحمُّل أو الأداء، أو كانت شهادته لا تَنفع، بأن كان ممن لا تُقبل شهادته – لَم يَلزمه ذلك؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ ﴾ [البقرة: 282]، وقوله – صلى الله عليه وسلم -: ((لا ضَرَر ولا ضِرار)).
جاء في الروض المربع: “و محلُّ وجوبها إن قدَر على أدائها بلا ضررٍ يَلحقه: في بدنه، أو عِرضه، أو ماله، أو أهله”.
وفي الحاشية؛ أي: “وإن قدَر بلا ضررٍ في بدنه، من ضَرْبٍ، أو حَبْسٍ، أو مَشقَّة سيرٍ، أو ماله بأَخْذ شيءٍ منه، أو تَلَفٍ، ونحو ذلك، أو أهله لغَيْبته عنهم، وفي عِرْضه لخوف التبذُّل بالتزكية، فإن حصَل له ضررٌ بشيء من ذلك، لَم تَجب، وليس المراد أن يَلوموه عليها، فإنه ليس بمانع”.
وهذا الحكم هو في الشهادة على حقوق العباد، أمَّا في حقوق الله تعالى – كالحدود، وموجبات التعزير – فهو مخيَّر بين أدائها أو تَرْك ذلك؛ لأنها مبنيَّة على الستر، فالأَوْلى فيها الكِتمان، إلاَّ لِمُتَهَتِّكٍ، ومَن اشتَهر بالفِسق والمعاصي، ومثال ذلك: لو شاهَد رجلاً يتناول المُسكر، ثم رفَع الأمر إلى الحاكم لإقامة الحد فأنكَر، فإن للشاهد هنا أن يتقدَّم بالشهادة، أو يَحجم عنها، وأمَّا إذا كان المتعاطي للمُسكر من ذَوِي الفِسق والمجون والإيذاء، فهنا يُستحب للشاهد أن يَشهد بما رآه؛ كي يُقام عليه الحد، فيَرتدع عن المعصية، وعن إيذاء المسلمين.
وأمَّا شروط الشهادة: فللشهادة نوعان من الشروط: شروط تحمُّل، وشروط أداءٍ:
فأما شروط التحمُّل – أي: الشروط التي يَلزم توفُّرها وقتَ العلم بالشيء المشهود به – فهي كثيرة؛ منها:
1- أن يكون الشاهد عاقلاً وقتَ التحمُّل، فلا يَصِح تحمُّلها من مجنون وصبي لا يَعقل؛ لأن تحمُّل الشهادة عبارة عن فَهْم الحادثة وضَبْطها، ولا يَحصل ذلك إلاَّ بآلة الفَهْم والضبط، وهي العقل.
2- أن يكون التحمُّل عن علمٍ، أو عن معاينة للشيء المشهود به بنفسه لا بغيره، ولا يتمُّ ذلك إلاَّ بالعلم، أو المعاينة، إلاَّ فيما تَصِح فيه الشهادة بالتسامُع والاستفاضة، كالنكاح، والنَّسب، والموت، وغير ذلك مما نصَّ عليه الفقهاء، أمَّا ما سوى ذلك، فتُشترَط فيه المعاينة.
وأما شروط الأداء؛ فمنها ما يرجع إلى الشاهد، ومنها ما يرجع إلى الشهادة، ومنها ما يَرجع إلى المشهود به، ومنها ما يرجع إلى النِّصاب؛ أي: عدد الشهود.
فممَّا يرجع إلى الشاهد:
أن يكون الشاهد أهلاً للشهادة، وذلك بتوفُّر شروطها فيه، ومن تلك الشروط: البلوغ، والعقل، والإسلام، والعدالة والتيقُّظ، أو الضبط، فلا تُقبل شهادة مُغَفَّل، لا يَضبط أصلاً أو غالبًا؛ لعدم التوثُّق بقوله، أمَّا مَن لا يَضبط نادرًا – والأغلب فيه الحفظ والضبط – فتُقبَل قطعًا؛ لأن أحدًا لا يَسلم من ذلك.
ومنها أيضًا الذكورة في الشهادة على الحدود والقِصاص، ومن الشروط أيضًا عدم التُّهمة، وللتُّهمة التي تُرَدُّ بها الشهادة أسباب؛ منها:
أ- أن يجرَّ بشهادته إلى نفسه نفعًا، أو يدفع ضُرًّا، فلا تُقبل شهادة الوارث لمُوَرِّثه بجُرْحٍ قبل اندماله، ولا الضامن للمضمون عنه بالأداء، ولا الإبراء، وذهَب جمهور الفقهاء إلى أنه لا تُقبَل شهادة أحد الزوجين للآخر، وخالَف في هذا الشافعية.
ب- كما لا تُقبل شهادة أصلٍ لفرعه، ولا فرعٍ لأصله؛ أي: لا تُقبل شهادة الأب لابنه، ولا شهادة الابن لأبيه، وأمَّا شهادة أحدهما على الآخر، فمقبولة؛ لعدم التُّهمة فيها.
ج- ولا تُقبل شهادة عدوٍّ على عدوِّه، والعداوة التي تُرَدُّ بها الشهادة أن تَبلغ حدًّا يتمنَّى زوال نعمته، ويَفرح لمصيبته، ويَحزن لمَسرَّته، وذلك قد يكون من الجانبين، وقد يكون من أحدهما، فيُخَصُّ بردِّ شهادته على الآخر، وتُقبل شهادة العدوِّ لعدوِّه؛ إذ لا تُهمة، والمراد بالعداوة هنا: العداوة الدنيويَّة لا الدينيَّة، فتُقبل شهادة المسلم على الكافر، والسُّني على المبُتدع.
د- ومن صُوَر التُّهمة التي تُرَدُّ بها الشهادة: العصبيَّة، فلا تُقبل شهادة مَن عُرِف بها، وبالإفراط في الحَمِيَّة، كتعصُّب قبيلة على قبيلة، وإن لَم تَبلغ رُتبة العداوة، وقد نصَّ على ذلك فقهاءُ الحنابلة، وبعض الجُهَّال ربما شَهِد زورًا؛ بسبب عصبيَّة قبَليَّة أو مذهبيَّة.
واستدلَّ العلماء لاشتراط عدم التُّهمة بالحديث المروي عنه – صلى الله عليه وسلم -: ((لا تَجوز شهادة خائنٍ ولا خائنة، ولا زانٍ ولا زانية، ولا ذي غِمْرٍ على أخيه))؛ أخرَجه أبو داود وغيره، وحسَّنه الألباني، والغِمْر: الحِقد والعداوة.