مفهوم القرينة وأثرها في الإثبات وأنواعها في النظام السعودي.
القرينة لغة:
مأخوذة من قرَن الشيء بالشيء؛ أي: شدَّه إليه ووصَله به، كجَمْع البعيرين في حبلٍ واحد، وكالقَرن بين الحج والعمرة، وتأتي المقارنة بمعنى المرافقة والمُصاحبة، ومنه ما يُطلق على الزوجة قرينة، وعلى الزوج قرين، وفي الاصطلاح: ما يدلُّ على المراد من غير كونه صريحًا.
وقيل: إنَّ القرينة هي:
“الأَمَارة التي تدلُّنا على الأمر المجهول؛ استنباطًا واستخلاصًا من الأَمَارة المصاحبة والمقارنة لذلك الأمر الخَفِي المجهول، ولولاها لَما أمكَن التوصُّل إليه، فالبعرة تدلُّ على البعير، وأثر السَّير يدلُّ على المسير”؛ الإثبات بالقرائن؛ لإبراهيم بن محمد الفايز (62).
والقرينة عند القانونيين:
“دليلٌ يقوم على استنباط أمرٍ مجهول من أمرٍ معلوم”.
وعرَّف القانون المدني الفرنسي القرائنَ بوجهٍ عام بأنها: “النتائج التي يَستخلصها القانون أو القاضي من واقعة معلومة؛ لمعرفة واقعة مجهولة”؛ مادة (1349)؛ الإثبات بالقرائن؛ لإبراهيم بن محمد الفايز (62)؛ نقلاً من الوسيط؛ للسنهوري.
والقرينة مُستعملة بكثرة في تصرُّفات الناس وتعامُلاتهم، وقبل ذلك هي مستعملة في الشرع المطهَّر، وورَد لها شواهدُ في القرآن والسُّنة، وسيأتي لذلك صور وأمثلة بعد قليل.
وأمَّا مشروعيَّة إعمال القرينة، فإن القرينة مشروعة في الجملة؛ لِما ورَد في قوله تعالى في سورة يوسف: ﴿ وَجَاؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ ﴾ [يوسف: 18]، قال القرطبي في تفسيره: “إنهم لَمَّا أرادوا أن يَجعلوا الدم علامة صِدقهم، قرَن الله بهذه العلامة علامةً تُعارِضها، وهي سلامة القميص من التمزيق؛ إذ لا يُمكن افتراسُ الذئب ليوسفَ وهو لابِسٌ القميصَ، ويَسلم القميصُ، وأجْمَعوا على أن يعقوب – عليه السلام – استدلَّ على كذبهم بصحَّة القميص، فاستدلَّ العلماء بهذه الآية على إعمال الأَمَارات في مسائل كثيرة من الفقه”.
كما استدلُّوا بقوله تعالى: ﴿ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴾ [يوسف: 26 – 27].
على جواز إثبات الحُكم بالعلامة؛ إذ أثبَتوا بذلك كذبَ امرأة العزيز فيما نسَبته ليوسف – عليه الصلاة والسلام.
ومنها قوله – صلى الله عليه وسلم – فيما رواه مسلم في صحيحه: ((الأَيِّم أحقُّ بنفسها من وليِّها، والبِكر تُستأمر، وإذنها سكوتُها)).
فجعَل صُماتها قرينة دالة على الرِّضا، وتَجوز الشهادة عليها بأنها رَضِيت، وهذا من أقوى الأدلة على الحكم بالقرائن.
كما سارَ على ذلك الخلفاء الراشدون والصحابة في القضايا التي عرَضت، ومن ذلك ما حكَم به عمر بن الخطاب، وابن مسعود، وعثمان – رضي الله عنهم، ولا يُعلَم لهم مخالفٌ – بوجوب الحدِّ على مَن وُجِدت فيه رائحة الخمر، أو قاءَها؛ وذلك اعتمادًا على القرينة الظاهرة.
ومن أدلة إعمال القرينة في القضاء:
ما أورَده النسائي في سُننه، قال – رحمه الله تعالى -: “باب السعة للحاكم في أن يقول للشيء الذي لا يَفعله: أفْعَل؛ ليَستبين الحقُّ”، ثم ساقَ الحديث عن أبي هريرة عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: ((خرَجت امرأتان معهما صبيَّان لهما، فعدا الذئبُ على إحداهما، فأخَذ ولدها، فأصبَحتا تَختصمان في الصبي الباقي إلى داود – عليه السلام – فقضى به للكبرى منهما، فمرَّتا على سليمان، فقال: كيف أمركُما، فقصَّتا عليه، فقال: ائتوني بالسِّكِّين أشقُّ الغلام بينهما، فقالت الصغرى: أتشقُّه؟ قال: نعم، فقالت: لا تَفعل، حظي منه لها، قال: هو ابنك، فقَضى به لها))، وصحَّحه الألباني.
قال الإمام النووي – رحمه الله تعالى -:
“قال العلماء: يُحتمل أن داود – عليه السلام – قضى به للكبرى لشَبَهٍ رآه فيها، أو أنه كان في شريعته ترجيحُ الكبرى، أو لكونه كان في يدها، فكان ذلك مُرجَّحًا في شرْعه، وأمَّا سليمان – عليه السلام – فتوصَّل بطريقٍ من الحِيلة والملاطفة إلى معرفة باطنة القضيَّة، فأوْهَمها أنه يُريد قطْعَه؛ ليَعرف مَن يَشُقُّ عليها قطْعُه، فتكون هي أُمَّه، فلمَّا أرادَت الكبرى قطْعَه، عرَف أنها ليستْ أُمَّه، فلمَّا قالت الصغرى ما قالت، عرَف أنها أُمُّه، ولَم يكن مُراده أنه يَقطعه حقيقةً، وإنما أرادَ اختبار شَفَقتها؛ ليتميَّز له الأمَّ”، ثم قال النووي: “قال العلماء: ومثلُ هذا يَفعله الحاكم؛ ليتوصَّل به إلى حقيقة الصواب”.
والقرائن نوعان؛ قرائن قاطعة، وقرائن غير قاطعة:
فمن القرائن ما يَقوى؛ حتى يُفيد القطع، ومنها ما يَضعُف، ولا يَنهض بالإثبات، ومثَّل الفقهاء لحالة القطع بمشاهدة شخصٍ خارج من دارٍ خالية، خائفًا مدهوشًا، في يده سكين ملوَّثة بالدم، فلمَّا وقَع الدخول للدار، رُئِي فيها شخصٌ مذبوحٌ في ذلك الوقت يتشخَّط في دمائه، فلا يُشتبه هنا في كون ذلك الشخص هو القاتل؛ لوجود هذه القرينة القاطعة.
وأما القرينة غير القطعيَّة في الدلالة – وإنما تُفيد غلبة الظنِّ – فمنها القرائن العُرفية، أو المُستنبطة من وقائع الدعوى، وتصرُّفات الخصوم، فهي دليلٌ أَوَّلِي مُرجَّح لزَعم أحد المتخاصمين مع يمينه، متى اقتنَع بها القاضي، ولَم يَثبُت خلافها.
والقرائن عند القانونيين تنقسم إلى قسمين؛ قرائن قانونيَّة، وقرائن قضائيَّة:
والقرائن القانونية:
هي التي استنبَطها المُقَنِّن الوضعي، مما يَغلب وقوعه من الحالات، فبنى عليها قاعدة عامَّة نصَّ عليها، فلا يُسوغ للقاضي أن يُخالفها.
وأمَّا القرائن القضائية:
فهي استنباطُ القاضي لأمورٍ مجهولة من أمورٍ معلومة، وبعبارة أخرى: هي القرائن التي يَستنتجها القاضي باجتهاده وذكائه في موضوع الدعوى وظروفها، وهي متعلِّقة بالوقائع، وتَختلف حسب الظروف، وأمرُها متروك للقاضي؛ الإثبات بالقرائن؛ لإبراهيم بن محمد الفايز (75).