مقال قانوني حول مسؤولية القاضي عن الخطأ القضائي
صور خطأ القاضي في النفس وما دونها والعرض والمال
تتنوع صور خطأ القاضي، فمنها الأفعال التي تقع خطأ على النفس، فتمس بدن الإنسان ونفسه، فتودي بحياته، ومنها الأذى الذي يلحق ما دون النفس، فيقع على أحد أعضائه دون إزهاق نفسه، وكذلك ما يكون في الأعراض؛ كالنكاح والطلاق وما شابهها، وأيضا لحوق الخطأ في الأموال، ووضعها في غير مكانها المناسب.
المطلب الأول: صور تحقق الخطأ في حكم القاضي في النفس وما دونها:
يتحقق خطأ حكم القاضي في النفس وما دونها في عدّة صور منها:
1- الجهل بأسباب الحكم وشروطه وموانعه، وهذا يعلم بالحسّ أو الخبر أو العادة، ومتى أخطأ القاضي في واحد من هذه الأمور أخطأ في الحكم، مثال ذلك: إذا قضى بالقتل على من لم يقتل، أو حكم بقتل الوالد بولده( ). ومن ذلك أيضاً:
أ. الحكم بشهادة من لا يصح الحكم بشهادته كمردود الشهادة، ولم يكن هناك شهود تزكية( ).
ب. ورود الخطأ على القاضي من جهة تقصيره في تنفيذ الحكم أو تعديه فيه إذا كان هو المستوفي له بنفسه، كما لو أقام الحد على حامل، أو زاد سوطا خطأ في حد أو تعزير، أو جهلٍ منه( ).
وقد يلحقه الضمان بسبب سوء التنفيذ وإن لم يكن هو المنفذ، وذلك حال ما إذا كان التنفيذ مبنيا على حكمه والمنفذ جاهلا بخطأ القاضي( ).
المطلب الثاني: صور تحقق الخطأ في حكم القاضي في مسائل العرض:
إذا حكم القاضي بالاجتهاد ثم تبين له الخطأ في حكمه، وإنّه خالف قطعيا كنص كتاب، أو سنة متواترة، أو اجماع، أو ظنــــا محكما بخبر الواحد، أو بالقياس الجلي، أو بقاعدة من القواعد، وكان الجميع سالما من المعارض الراجح، فيلزمـــــه نقض حكمه( ).
صور خطأ القاضي في حكمه على العرض:
1- إذا قضى القاضي بصحة نكاح بغير ولي كان قد فسخه هو أو غيره؛ لكونه على خلاف الدليل، وهو قول النبي : “أيما امرأة نكحت بغير إذن مواليها فنكاحها باطل “ثلاث مرات” فإن دخل بها فالمهر لها بما أصاب منها فإن تشاجروا فالسلطان ولي من لا ولي له”( ). وهذا عند غير الحنفي( ).
2- إذا أخطأ في قضائه بأنْ ظهر أنّ الشهود كانوا عبيدا أو محدودين في قذف أو كافرين، سواء كان ذلك في الزواج أو الطلاق، نقض حكمه وأبطله لأنه تبين أن قضاءه كان قضاء باطلاً( ).
3- إذا ادعت امرأة على زوجها قذفا، وجحده الزوج، فأقامت عليه بْينة بذلك، وأمر القاضي الزوج بأنْ يلاعنها، فأبى أن يفعل، وقال: لم أقذفها وقد شهدوا علي زورا، فأجبره القاضي على الملاعنة فلاعن، وفرق القاضي بينهما ثم ظهر أن الشهود عبيد أو محدودين في قذف، أو بطلت شهادتهم بوجه من الوجوه، فإن القاضي يبطل اللعان الذي كان بينهما ويبطل الفرقة، ويرد المرأة إلى زوجها؛ لأنه تبين أنّه قضى بغير حجة، والقضاء بغير حجة باطل مردود( ).
4- لو قضى بصحة نكاح المفقود زوجها بعد مضي أربع سنين ومدة العدة؛ فالأشهر نقضه عند الشافعية لمخالفته القياس الجلي؛ لأنّه يجعل حيا في المال، فلا يقسم بين ورثته، فلا يجعل ميتا في النكاح( ).
5- لو حكم القاضي بصحة نكاح الشغار؛ فهو باطل لمخالفته النص( ).
6- لوقضى القاضي بحصول الفرقة في اللعان بالاكتفاء بأربعة أيمان أو ما دونها؛ فإنه مخالف لنص القرآن والسنة، فإن الوارد فيهما إنّه خمسة أيمان، والحكم بخلاف النص باطل( ).
7- إذا كانت المرأة محرمة بالعدّة أو الردّة أو الرضاع، أو القرابة، أو المصاهرة، فقضى القاضي بصحة النكاح في هذه الحالة، مع عدم علمه بذلك فإن ذلك يعتبر من باب الخطأ في حكمه على العرض( ).
المطلب الثالث: صور تحقق الخطأ في حكم القاضي في مسائل المال:
يمكن إجمال صور خطأ القاضي في الحكم في الأمور الآتية:
أولاً: الخطأ في الحكم نفسه:
فلو حكم القاضي خطأ بخلاف الكتاب أو السنة، أو محل الاتفاق، أو حكم بخلاف القياس الجلي –عند المالكية( ) والشافعية( )– أو حكم بخلاف القواعد عند المالكية وحدهم، فهذا خطأ موجب لرد حكمه( ).
مثال الخطأ فيما خالف القرآن:
كأنْ يحكم بمساواة البنت، أو الأخت الشقيقة، أو الأخت لأب لأخيها في الميراث( )، فهو مخالف لقوله تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ[النساء: 11].
مثال ما خالف السنة:
كأنْ يحكم بتوريث العمة، أو الخالة مع وجود أصحاب الفروض أو العصبة( ) لقول النبيِّ : “الْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا، فَمَا بَقِيَ فَهُوَ لأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ”( )، أو أن يحكم بجريان التوارث بين المسلم والكافر لقوله : لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم( ).
مثال مخالفة محل الاتفاق:
كأنْ يحكم بأنّ الميراث كله للأخ دون الجدّ، لأنّ الأمة فيه على قولين فحصل الاتفاق من الفقهاء على وجود قولين فيه: القول الأول اختصاص الجدّ بالميراث، والقول الثاني: مقاسمة الأخ له، ولم يقل أحد باختصاص الأخ وحرمان الجد( ).
فكل هذه الأمور تعتبر من باب الخطأ –إذا لم يتعمد القاضي فيها الجور– فهي باطلة؛ لأنّ القضاء بخلاف النص والإجماع قضاء باطل، وهو جهل من القاضي، ولا ينبغي أن يمنعه الاستحياء من الناس عن الرجوع إلى الحق، فإن مراقبة الله تعالى في ذلك خير له؛ ولأنّ شرط الاجتهاد في الحكم عدم مخالفة النص أو الإجماع بدليل خبر معاذ حين بعثه رسول الله إلى اليمن، ولأنّه إذا ترك الحكم بالكتاب، أو السنة، أو الإجماع، فقد فرط، فهو خطأ يجب نقضه، سواء تبين ذلك للقاضي بنفسه إنّ ما حكم به مخالف للدليل، أو لمن جاء بعده من القضاة، وإنْ كان القاضي الأول قد اشتهر بالعدالة، لأنّ الخطأ لا يقر( ).
مثال ما خالف القياس الجلي:
وهو ما قطع فيه بنفي الفارق أوضعفه، كالحكم بقبول شهادة الكافر فيما لا يجوز قبولها فيه، فإن الحكم بشهادته في ذلك مخالف للقياس؛ لأن الفاسق لا تقبل شهادته، والكافر أشد منه فسوقا وأبعد عن المناصب الشرعية في مقتضى القياس( ).
أو حكم بصحة نكاح المفقود زوجها بعد مضي أربع سنين ومدة العدة: لمخالفته القياس الجلي؛ لأنه جعل حيا في المال، فلا يقسم بين ورثته، فلا يجعل ميتا إلا في حق النكاح ( ).
مثال ما خالف القواعد:
كأنْ يحكم ببيّنة نافية دون المثبته، فالقواعد الشرعية تقدم البيّنة المثبتة على البيّنة النافية( ).
وكذا الحكم بصحة لزوم الطلاق فيما إذا قال الزوج لزوجته إنْ طلقتك فأنت طالق قبله ثلاثا، أو متى ما طلقتك وقع عليك طلاقي قبله ثلاثا، فإذا وقع الطلاق تحقق قبله ثلاثا، فلم يجد محلا وكل شيء أدى ثبوته إلى انتفائه ينتفي قطعا، فلا يلزمه طلاق أصلا، فهذا مخالف لقاعدة أنّ الشرط لا بد أنْ يجامع المشروط وإلاّ ألغي، وحينئذ فقوله: قبله كالعدم، لا يعتبر فهو ملغى لأجل أن تحصل المجامعة، فإذا كان الشرط لا يصح اجتماعه مع مشروطه، فلا يصح أنْ يكون في الشرع شرطا( ).
وإنْ حكم القاضي بالظنّ والتخمين من غير قصد إلى الاجتهاد في الأدلّة، فإنّ ذلك من أكبر الأخطاء؛لأنّ الحكم بالتخمين فسق وظلم وخلاف للحق؛ فيجب عليه نقضه، وكذلك يجب على غيره من القضاة نقضه إذا اطّلع عليه وثبت عنده وكذلك حكم القاضي الجاهل حتى ولو كان يعتمد على مشاورة العلماء يعتبر حكمه خطأ؛لأنّه ولو عرف الحق بسؤال العلماء فقد لا يعرف إيقاعه؛ لأنّ الحكم يحتاج إلى زيادة نظر في البيئة وغيرها من أحوال المتداعين؛إذ القضاء صناعة دقيقة لا يهتدي إليها كل الناس( ).
واعترض بأنّه كيف يصح تولية الجاهل مع أنّ شرط صحة تولية القاضي العلم؟ وأجيب بأنّه قد يولى الجاهل لعدم وجود العالم حقيقة أو حكما كمرضه أو سفره( ).
ثانياً: الخطأ في طرق الحكم:
وذلك فيما إذا حكم القاضي بشهادة غير مقبولة، كما لو حكم بشهادة عدو على عدوه، أو حكم بشهادة الوالد لولده، أو العكس وهو لا يرى قبول شهادتهما، أو حكم القاضي نفسه على عدوه( ).
ثالثاً: الخطأ في سبب الحكم:
كأنْ يحكم ببيّنة مزوّرة، فيكون الخطأ حينئذ في السبب حيث إنّه رتّب الحكم –وهو المسبب- على سبب غير صحيح، كما لو حكم بالبيع على من لم يبع، أو القصاص على من لم يقتل، أو الطلاق على من لم يطلق، أو الدين على من لم يستدن، فهذا قضاء على خلاف الأسباب فإذا اطّلع عليه وجب نقضه عند الكل إلا قسما منه خالف فيه أبو حنيفه –رحمه الله– وهو ما كان فيه عقد صوري أو فساد( ).