موانع الميراث – دراسة شاملة في ضوء الفقة والقانون المصري
موانع الإرث:
المانع لغة: الحائل، واصطلاحاً: ما ينتفي لأجله الحكم عن شخص لمعنى فيه، بعد قيام سببه، ويسمى محروماً، فخرج ما انتفى لمعنى في غيره، فإنه محجوب، أو لعدم قيام السبب كأجنبي، والمراد بالمانع هنا: المانع عن الوراثة، لا التوريث، وإن كان بعض الموانع كاختلاف الدين مانعاً عن الأمرين معاً: الوراثة والتوريث.
واتفق الفقهاء على ثلاثة موانع للإرث:
هي الرق، والقتل، واختلاف الدين. واختلفوا فيما عداها.
ذكر الحنفية أربعة موانع مشهورة: هي الرق، والقتل، واختلاف الدين، واختلاف الدارين، السببان الأولان يمنعان صاحبهما من أن يرث من غيره، والأخيران يمنعان التوارث من الجانبين. قال القدوري في الكتاب: لا يرث أربعة: المملوك، والقاتل من المقتول، والمرتد، وأهل الملتين، وكذا أهل الدارين، وسأوضح هذه الموانع كلاً على حدة.
وأضافوا مانعين آخرين، فتصبح الموانع لديهم ستة، والمانعان هما:
1ً – جهالة تاريخ الموتى كالغرقى والحرقى والهدمى والقتلى في آن واحد؛ لأن من شروط الإرث السابقة: وجود الوارث حياً عند موت المورث، وهو منتف هنا لعدم العلم بوجود الشرط، ولا توارث مع الشك.
2ً – وجهالة الوارث: وهي في خمس مسائل أو أكثر، منها:
1 – امرأة أرضعت صبياً مع ولدها، وماتت، ولم يعلم أيهما ولدها، أي جهل ولدها، فلا يرثها واحد منهما.
2 – استأجر مسلم وكافرلولديهما ظئراً (مرضعاً)، فكبرا عندها، ولم يعلم ولد المسلم من ولد الكافر، فالولدان مسلمان، ولا يرثان من أبويهما، إلا أن يصطلحا، فلهما أن يأخذا الميراث بينهما.
إن جهالة الوارث مانع آخر؛ لأنها كموته حكماً كما في المفقود.
وزاد بعض الحنفية مانعاً سابعاً وهوالنبوة، لحديث الصحيحين: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة» فكل إنسان يرث ولا يورث، إلا الأنبياء لا يرثون ولا يورثون. والحق أن النبوة ليست من الموانع؛ لأن النبوة معنى قائم في المورث، والمانع: هو ما يمنع الإرث لمعنى قائم في الوارث.
وذكر المالكية عشرة موانع للميراث هي:
1ً – اختلاف الدين: فلا يرث كافر مسلماً إجماعاً، ولا يرث مسلم كافراً عند الجمهور، ولا يرث كافر كافراً إذا اختلف دينهما، خلافاً لأبي حنيفة والشافعية. وإذا أسلم الكافر بعد موت مورثه المسلم، لم يرثه.
والمرتد في الميراث كالكافر الأصلي، خلافاً لأبي حنيفة فإن المسلم يرث عنده من المرتد. وأما الزنديق فيرثه ورثته من المسلمين إذا كان يظهر الإسلام.
2 ً – الرق: فالعبد، وكل من فيه شعبة من رق كالمكاتب والمدبر وأم الولد. والمعتق بعضه، والمعتق إلى أجل، لا يرث ولا يورث، وميراثه لمالكه.
3ً – القتل العمد: فمن قتل مورثه عمداً، لم يرث من ماله ولا ديته، ولم يحجب وارثاً. فإن قتله خطأ ورث من المال دون الدية، وحجب غيره.
4 ً – اللعان: فلا يرث المنفي به النافي، ولا يرثه هو.
5 ً – الزنا: فلا يرث ولد الزنا والده، ولا يرثه هو؛ لأنه غير لاحق به، وإن أقر به الوالد حُدَّ، ولم يلحق به.
ومن تزوج أمّاً بعد ابنة، أو بنتاً بعد أم، لم ترثه واحدة منها.
ومن تزوج أختاً بعد أخت، والأولى في عصمته، ورثته دون الثانية.
6 ً – الشك في موت المورث: كالأسير والمفقود.
7 ً – الحمل: فيوقف به المال إلى الوضع.
8 ً – الشك في حياة المولود: فإن استهل صارخاً ورث ووُرث، وإلا فلا، ولا يقوم مقام الصراخ: الحركة والعطاس في المذهب إلا أن يطول أو يرضع.
9 ً – الشك في تقدم موت المورث أو الوارث: كميتين تحت هدم أو غرق، فلا يرث أحدهما الآخر، ويرث كل واحد منهما سائر ورثته. وهذا هو جهالة تاريخ الموتى عن الحنفية.
10 ً – الشك في الذكورة والأنوثة: وهو الخنثى، ويختبر بالتبول واللحية والحيض، فإن لحق بالرجال ورث ميراث الرجال، وإن لحق بالنساء ورث ميراثهن. وإن أشكل أمره، أعطي نصف نصيب أنثى، ونصف نصيب ذكر.
وذكر الشافعية والحنابلة : ثلاثة موانع للإرث هي:
الرق، والقتل، واختلاف الدين. وأضاف الشافعية موانع ثلاثة أخرى، فتصبح الموانع عندهم ستة، وهذه الثلاثة هي:
1 – اختلاف ذوي الكفر الأصلي بالذمة والحرابة: المشهور أنه لا توارث بين حربي وذمي لانقطاع الموالاة بينهما. والمعاهد والمستأمن كالذمي.
2 – الردة: لا يرث المرتد من أحد مسلم أو كافر، ولا يورث بحال، للحديث السابق: «لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم» بل يكون ماله فيئاً لبيت المال، سواء اكتسبه في أثناء الإسلام أم في الردة. ويدخل هذا المانع في اختلاف الدين، كما أبان المالكية سابقاً.
3 – الدور الحُكْمي: وهو أن يلزم من التوريث عدم التوريث، مثل: أن يقرّ أخ حائز للتركة بابن للمتوفى، فيثبت نسبه بإقرار الأخ، لكن لا يرث هذا الابن للدور؛ لأنه بإقرار هذا الأخ بالابن وثبوت نسبه من الأب، تبين عدم إرثه؛ لأنه محجوب به، فيلزم عليه بطلان إقراره؛ لأنه حينئذ لم يكن حائزاً للتركة، فيبطل نسب الولد، وإذا بطل فإنه لا يرث. ولكن إذا كان صادقاً في نفس الأمر، فإنه يجب أن يدفع له التركة ديانة فيما بينه وبين الله تعالى.
إن إثبات الإرث أدى إلى نفيه، وكل ما أدى إثباته إلى نفيه ينتفي من أصله.
وبالتأمل أرى أن ماذكره الفقهاء من موانع الإرث غير الأربعة المشهورة لا تعد في الحقيقة موانع، وإنما ينتفي الإرث لعدم تحقق شرط من شروط الإرث السابقة.
لذا أعود لشرح الموانع الأربعة المشهورة وهي:
المانع الأول ـ الرق:
وهو لغة: العبودية، واصطلاحاً: عجز حكمي يقوم بالإنسان، سببه في الأصل: الكفر. فهو مانع من الإرث مطلقاً، سواء أكان تاماً أم ناقصاً في رأي الحنفية والمالكية، فلا توارث بين حر ورقيق، أي لا يرث الرقيق أحداً ولا يورث؛ لأن الرق ينافي أهلية التملك، إذ مقتضى كون الرقيق مالاً مملوكاً للسيد، ألا يكون مالكاً للمال، باعتبار أن المملوكية تنبئ عن العجز والهوان، والمالكية تنبئ عن القدرة والكرامة، فتتنافيان، ويكون جميع ما في يده من المال لسيده، فلو ورثناه لوقع الملك لسيده، فيكون توريثاً للأجنبي بلا سبب، وإنه باطل إجماعاً.
ولم يذكر القانون السوري هذا النسب لإلغاء الرق من العالم.
المبعض: استثنى الشافعية في المذهب الجديد وهو الأصح العبد المبعض وهو من بعضه حر، فإنه يورث عنه إذا مات المال الذي ملكه ببعضه الحر؛ لأنه تام الملك عليه كالحر، فيرثه عنه قريبه الحر، أو معتق بعضه، وزوجته، ولا شيء لسيده، لاستيفاء حقه مما اكتسبه بالرِّقية.
وقال الحنابلة : من بعضه حر يرث ويورث بجزئه الحر ، ويحجب على مقدار ما فيه من الحرية، ولا يرث ولا يورث ولا يحجب بالقدر الباقي فيه من الرق، لما روى عبد الله بن أحمد عن ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال في العبد يعتق بعضه: «يرث ويورث على قدر ما عتق منه»
المكاتب: المكاتب عند الحنابلة إن لم يملك قدر ما عليه من أقساط الكتابة، هو عبد لا يرث ولا يورث، وإن ملك قدر ما يؤدي، ففيه روايتان:
إحداهما: أنه عبد مابقي عليه درهم، لايرث ولايورث، وهو رأي الجمهور من الأئمة الآخرين، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «المكاتب عبد مابقي عليه درهم» .
والثانية: أنه إذا ملك مايؤدي، فقد صار حراً، يرث ويورث، فإذا مات من يرثه، ورث، وإن مات هو فلسيده بقية كتابته، والباقي لورثته، لحديث أم سلمة، قالت: قال لنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إذا كان لإحداكن مكاتب، وكان عنده مايؤدي، فلتحجب منه» (2).
المانع الثاني – القتل:
اتفق الفقهاء على أن القتل مانع من الميراث، فالقاتل لايرث من قتيله، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «ليس لقاتل ميراث» (3)؛ لأنه استعجل الميراث قبل أوانه بفعل محظور، فعوقب بحرمانه مما قصد، لينزجر عما فعل، ولأن التوريث مع القتل يؤدي إلى الفساد، والله لايحب الفساد.
ولكنهم اختلفوا في نوع القتل المانع:
رأى الحنفية: أنه القتل الحرام: وهو الذي يتعلق به وجوب القصاص أو الكفارة، ويشمل القتل العمد وشبهه والخطأ ومايجري مجرى الخطأ، والذي يوجب القصاص هو القتل العمد: وهو عند أبي حنيفة: الضرب قصداً بالمحدد من السلاح أو مايجري مجراه في تفريق أجزاء البدن كالمحدَّد من الخشب أو الحجر. وعند الصاحبين والأئمة الثلاثة الآخرين: هو الضرب قصداً بما يُقْتل به غالباً، وإن لم يكن محدداً كحجر عظيم.
وأما الذي يوجب الكفارة فهو إما شبه العمد: كأن يتعمد ضربه بما لايقتل به غالباً. وإما الخطأ: كأن رمى إلى الصيد فأصاب إنساناً أو انقلب في النوم على آخر فقتله، أو سقط من سطح عليه، أو سقط عليه حجر من يده فمات، أو وطئ الراكب بدابته أحداً.
ومالم يتعلق به وجوب القصاص أو الكفارة، فلا يمنع من الميراث. وهو القتل بحق، أو بعذر، أو بالتسبب، والصادر من غير المكلف. والقتل بحق: مثل قتل المورث لتنفيذ القصاص أو الحد بسبب الردة أو الزنى حال الإحصان، والقتل دفاعاً عن النفس، وقتل العادل مورثه الباغي باتفاق الحنفية، وبالعكس عند أبي حنيفة ومحمد وهو قتل الباغي مورثه العادل مع الإمام، فلا يحرم ذلك أصلاً.
والقتل بعذر: كقتل الزوج زوجته أو الزاني بها عند التلبس بالزنا؛ لفقده الشعور والاختيار حينئذ، وكالقتل الذي يتجاوز به حدود الدفاع الشرعي؛ لأن أصل الدفاع لايمكن ضبطه، فيعفى عن التجاوز فيه.
والقتل بالتسبب: هو مالا يباشره القاتل، كحفر بئر أو وضع حجر في غير ملكه.
والقتل الصادر من غير المكلف: هو القتل من الصبي أو المجنون. ففي هذه الأنواع الأربعة لايحرم القاتل من الميراث.
وإذا قتل الأب ابنه عمداً، وإن لم يثبت به قصاص ولا كفارة، يحرم من الميراث؛ لأن القتل في أصله موجب للقصاص، إلا أنه سقط بقوله صلّى الله عليه وسلم: «لايقتل الوالد بالولد» .
ورأى المالكية: أن القتل المانع من الإرث: هو قتل العمد العدوان سواء أكان مباشرة أم تسبباً. ويشمل الآمر به والمحرض عليه، والمسهل له، والشريك، وواضع السم في الطعام أوالشراب، والربيئة (من يراقب المكان أثناء مباشرة القتل) وشاهد الزور إذا بني الحكم على شهادته، والمكرِه إكراهاً ملجئاً على قتل معصوم الدم، وحافر البئر لمورثه، وواضع الحجر في طريقه، فيصطدم به فيموت.
أما القتل خطأ: فلا يمنع من ميراث المال، ويمنع من إرث الدية.
ورأى الشافعية: أن القاتل لايرث من مقتوله مطلقاً، سواء أكان مباشرة أم تسبباً، لمصلحة كضرب الأب والزوج والمعلم أم لا، مكرِهاً أم لا، بحق أم لا، من مكلف أم من غير مكلف. وهذا أوسع الآراء، ودليلهم عموم خبر الترمذي وغيره: «ليس للقاتل شيء» أي من الميراث.
ورأى الحنابلة: أن القتل المانع من الإرث: هو القتل بغير حق، وهو المضمون بقصاص (قود) أو دية أو كفارة، فيشمل العمد وشبه العمد والخطأ، وماجرى مجرى الخطأ كالقتل بالتسبب، وقتل الصبي والمجنون والنائم.
والخلاصة: أن الفقهاء اتفقوا على أن القتل مانع من الميراث، واختلفوا في نوع القتل، فاعتبر أبو حنيفة المباشرة مع العدوان عمداً أو خطأً، واعتبر مالك العمد العدوان، دون الخطأ، واعتبر الشافعي كل قتل مانعاً ولو من قاصر، واعتبر أحمد القتل المضمون بقصاص أو دية أو كفارة ولو من قاصر.
فالقتل العمد وشبه العمد والخطأ وشبه الخطأ مانع من الميراث عند الجمهور مع مراعاة معنى العمد عند أبي حنيفة واستثناء القتل بالتسبب عند الحنفية، والقتل العمد وحده، سواء أكان الفاعل أصيلاً أم شريكاً مباشرة أم تسبباً هو المانع عند المالكية.
وأخذ القانون المصري (م5) والقانون السوري (م223، 264) بمذهب المالكية في تحديد نوع القتل المانع من الميراث والوصية، خلافاً لمذهب الحنفية في موضعين: القتل بالتسبب، والقتل الخطأ.
إرث الزوج دية القتل الخطأ: رأى الحنفية أن دية الخطأ كسائر الديون، يرث منها كل واحد من الزوجين وغيرهما، لحديث: «من ترك مالاً أو حقاً فلورثته» ولأنه صلّى الله عليه وسلم أمر بتوريث امرأة أشيم الضبابي من عقل (دية) زوجها، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
ورأى المالكية عدم توارث الزوجين من الدية، لانقطاع الزوجية بالموت، ولا وجوب للدية بعده .
المانع الثالث ـ اختلاف الدين:
اختلاف الدين بين المورث والوارث بالإسلام وغيره مانع من الإرث باتفاق لمذاهب الأربعة، فلا يرث المسلم كافراً، ولا الكافر مسلماً، سواء بسبب القرابة أو الزوجية، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم» وقوله: «لا يتوارث أهل ملتين شتى» وهذا هوالراجح لأن الولاية منقطعة بين المسلم والكافر، وبه أخذ القانون المصري (م6) والقانون السوري (م 264): «لا توارث بين مسلم وغير مسلم».
وذهب معاذ ومعاوية والحسن وابن الحنفية ومحمد بن علي بن الحسين ومسروق رضي الله عنهم إلى أن المسلم يرث من الكافر، ولا يرث منه، لحديث «الإسلام يعلو ولا يعلى» ورد عليهم بأن المراد العلو بحسب الحجة أو بحسب القهر والغلبة، أي النصرة في العاقبة للمسلمين.
وقال أحمد: يرث المسلم عتيقه الكافر. لعموم الحديث السابق: «الولاء لمن أعتق» .
إرث غير المسلمين: أما اختلاف الدينين بين الكفار أنفسهم كاليهود والنصارى، ففي جعله ما نعاً من الميراث خلاف:
1 – قال المالكية: لا يرث كافر كافراً إذا اختلف دينهما من اليهودية والنصرانية، فلا يتوارث اليهود من النصارى ولا النصارى من اليهود، لأنهما دينان مختلفان، ولا يرثان من مشرك ولا يرثهما مشرك، لعموم الحديث السابق:
«لا يتوارث أهل ملتين شتى» ولأنه لا موالاة بينهم. وأما غير اليهودية والنصرانية من سائر الملل والنحل، فإنها تعتبر شيئاً واحداً، ويتوارث بعضهم من بعض (1).
2 – وقال الحنفية والشافعية والحنابلة: يتوارث الكفار بعضهم من بعض؛ لأن الكفر ملة واحدة في الإرث، لقوله تعالى: {والذين كفروا بعضهم أولياء بعض} [الأنفال:73/ 8] فهو بعمومه يشمل جميع الكفار، وقوله سبحانه: {فماذا بعد الحق إلا الضلال} [يونس:32/ 10] ولأن جميع ملل الكفر في نظر الإسلام سواء في البطلان كالملة الواحدة، ولأن غير المسلمين سواء في معاداة المسلمين والتمالؤ عليهم، فهم في حكم ملة واحدة. وبه أخذ القانون المصري، فنصت المادة (6) على أنه «يتوارث غير المسلمين بعضهم من بعض».
3 – وقال ابن أبي ليلى: اليهود والنصارى يتوارثون فيما بينهم، ولا توارث بينهم وبين المجوس.
إرث المرتد والزنديق :
المرتد: هو من ترك الإسلام إلى غيره من الأديان أو أصبح لا دين له. ولا خلاف في أن المرتد ومثله المرتدة لا يرث من غيره شيئاً، لا من مسلم ولا من كافر؛ لأنه أصبح لا موالاة بينه وبين غيره، ولا يقره الإسلام على ردته، وإنما يقتل، ولكن لا تقتل المرتدة عند الحنفية؛ لأنه صلّى الله عليه وسلم نهى عن قتل النساء، وإنما تحبس حتى
وأما الإرث من المرتد ففيه خلاف:
1 – قال أبو حنيفة: يرث الورثة المسلمون من الرجل المرتد ما اكتسبه في حال الإسلام، وأما ما اكتسبه في حالة الردة، فيكون فيئاً لبيت مال المسلمين. وأما المرتدة: فجميع تركتها لورثتها المسلمين.
ولم يفرق الصاحبان بين المرتد والمرتدة، وقالا: جميع تركتها في حالي الإسلام والردة لورثتهما المسلمين؛ لأن المرتد لا يقر على ما اعتقده، بل يجبر على عوده إلى الإسلام، فيعتبر حكم الإسلام في حقه، لا فيما ينتفع هو به، بل فيما ينتفع به وارثه.
2 – وقال الجمهور (المالكية والشافعية والحنابلة): لا يرث المرتد ولا يورث كالكافر الأصلي، بل يكون ماله فيئاً لبيت المال، سواء اكتسبه في الإسلام، أم في الردة؛ لأنه بردته صار حرباً على المسلمين، فيكون حكم ماله كحكم مال الحربي. هذا إن مات على ردته، وإلا فماله موقوف، فإن عاد إلى الإسلام فهو له.
ردة أحد الزوجين: قال الحنابلة: إذا ارتد أحد الزوجين قبل الدخول، انفسخ النكاح في الحال، ولم يرث أحدهما الآخر، وإن كانت ردته بعد الدخول ففيه روايتان:
إحداهما ـ يتعجل الفرقة.
والأخرى ـ يقف على انقضاء العدة، وأيهما مات لم يرثه الآخر.
وأما الزنديق: فهو الذي يظهر الإسلام، ويستسر بالكفر، وهو المنافق، كان يسمى في عصر النبي صلّى الله عليه وسلم منافقاً، ويسمى اليوم زنديقاً، وهو يختلف عن المنافق في السعاية بالفساد والدعوة السرية لهدم الإسلام وتشكيك المسلمين بعقائدهم.
وحكمه عند الجمهور غير المالكية كالمرتد على الخلاف والتفصيل السابق، فمال الزنديق عند الشافعية والحنابلة في بيت المال.
وقال المالكية: يورث الزنديق خلافاً لسائر المرتدين، فيرثه ورثته المسلمون، إذا كان يظهر الإسلام.
والخلاصة: إن الردة في الجملة تمنع الإرث، وقد عدها بعضهم مانعاً خاصاً غير اختلاف الدين؛ لأن للارتداد أحكاماً خاصة. فالمرتد لا يرث أحداً غيره مطلقاً، ولا يورث عند الجمهور غير الحنفية، ويورث عند الصاحبين مطلقاً، ويورث فقط ماله الذي اكتسبه حال الإسلام عند أبي حنيفة.
المانع الرابع ـ اختلاف الدارين:
المراد بالدار: الوطن الذي له منعة خاصة وسلطان مستقل. والمراد باختلاف الدارين: أن يكون كل من الوارث والمورث تابعاً لدولة تخالف الأخرى في المَنَعة (القوة أو الجيش) والمُلْك (السلطة) مع انقطاع العصمة بينهما، كأن يكون أحدهما من الهند والآخر من السويد.
ويظهر هذا المانع بين دار الإسلام ودار الحرب أو بين أجزاء دار الحرب نفسها. أما دار الإسلام أو بلاد المسلمين، فتعتبر وطناً واحداً للمسلمين، فيرث المسلم في أي بلد آخر؛ لأن الإسلام صيَّر بلاد المسلمين وطناً واحداً، مهما تباعدت الديار، واختلفت الأنظمة وانقطعت الصلات. فلو مات مسلم في دار الحرب ورثه ورثته في دار الإسلام. فهذا المانع خاص بغير المسلمين؛ لأن بلاد الإسلام وطن واحد.
وأما دار الحرب فتختلف أحكامها باختلاف دولها.
واختلاف الدار مانع للإرث عند الحنفية فقط إذا كان بين الكفار، دون المسلمين، لثبوت التوارث بين أهل البغي وأهل العدل، وإن اختلفت المنَعة والمُلْك، فيكون هذا المانع خاصاً بغير المسلمين. واختلاف الدار ثلاثة أنواع: حقيقي وحكمي معاً، وحكمي فقط، وحقيقي فقط.
أـ الاختلاف الحقيقي والحكمي معاً: يتحقق باختلاف التبعية والإقامة، كأن يكون الوارث حربياً في دار الحرب، والمورث ذمياً في دار الإسلام، فإذا مات الحربي في دار الحرب، وله أب أو ذمي في دار الإسلام، أو مات الذمي في دار الإسلام، وله أب أو ابن في دار الحرب، لم يرث أحدهما من الآخر؛ لأن الذمي من أهل دار الإسلام، والحربي من أهل دار الحرب، فهما وإن اتحدا ملة، لكن لتباين الدارين حقيقة تنقطع الولاية بينهما، فتنقطع الوراثة على الولاية؛ لأن الوارث خلف المورّث في ماله ملكاً ويداً وتصرفاً.
ب ـ الاختلاف الحكمي فقط: يتحقق باختلاف التبعية أو الجنسية فقط، كأن يكون الوارث ألمانياً والمورث إنجليزياً معاً في ألمانيا وإنجلترا، أو يكون أحدهما ذمياً والآخر مستأمناً يقيمان معاً في دار الإسلام؛ لأن المستأمن من أهل دار الحرب حكماً.
أو يكون كلاهما مستأمنين من دولتين مختلفتين، يقيمان معاً في دار الإسلام؛ لأن كلاً منهما حربي من دار مختلفة. فلا توارث بين هؤلاء جميعاً، لاختلاف التبعية.
جـ ـ الاختلاف الحقيقي فقط: يتحقق باختلاف الإقامة مع اتحاد الرعوية أو التابعية. كألمانيين يقيم أحدهما في فرنسا، والآخر في أمريكا، مع الاحتفاظ بجنسيتهما، وكمستأمن في دارنا مع حربي في دار الحرب، كلاهما من دولة واحدة، يتوارثان، لاتحاد التبعية.
النوعان الأول والثاني مانعان من الإرث، لاختلاف التبعية، ومناط المنع من الإرث دائر على التبعية، ويكون الاختلاف الحكمي هو السبب وحده في منع الميراث.
أما النوع الثالث فغير مانع، للاتحاد في التبعية.
وبه يظهر أن الحربيين: إن كانا في دارين من دور الحرب مع اتحاد الجنسية كان الاختلاف في الدار حقيقياً غير مانع، وإن كان في دارنا، كان الاختلاف حكمياً، مانعاً من الإرث، فلا يتوارثان في دار الإسلام إلا إذا صارا ذميين.
واختلاف الدار لدى الشافعية ليس مانعاً من موانع الإرث، لكنهم قالوا: لاتوارث بين حربي ومعاهد، وهو يشمل الذمي والمستأمن، لانقطاع الموالاة بينهما، كما تقدم، فيوافقون الحنفية في النوع الأول.
وليس اختلاف الدار مطلقاً لدى المالكية والحنابلة مانعاً للميراث، فيرث أهل الحرب بعضهم بعضاً، سواء اتفقت ديارهم أو اختلفت.
أما القانون المصري في المادة (6) فقد نص على أن اختلاف الدار لا يمنع من الإرث بين المسلمين. ولا يمنع بين غير المسلمين إلا إذا كانت شريعة الدار الأجنبية تمنع من توريث الأجنبي عنها.
جرى هذا القانون على أن الأصل أن اختلاف الدار لا يمنع من التوارث بين غير المسلمين، كما يقول المالكية والحنابلة، إلا أنه شرط أن تكون شريعة الدار الأجنبية لا تمنع من توريث الأجنبي عنها، فإذا كانت شريعتها تمنع من توريث الأجنبي، كان اختلاف الدار عندنا مانعاً من الإرث، معاملة بالمثل.
وأما القانون السوري في المادة (264) فإنه نص على أنه «لا يمنح الأجنبي حق الإرث إلا إذا كانت قوانين بلاده تمنح مثل ذلك للسوريين» وذلك أخذاً بمبدأ المعاملة بالمثل، وهذا شامل مع الأسف المسلمين من جنسيات مختلفة، وهو لم يقل به فقيه.
فمثلاً لا يورِّث السوريون الأتراك، ولا يورِّث الأتراك السوريين أخذاً بالمقابلة أو المعاملة بالمثل، وهذا غير جائز شرعاً لمخالفة النص القرآني: {إنما المؤمنون إخوة} [الجحرات:49/ 10].
لكن إذا فهم المقصود من كلمة (الأجنبي) أنه غير المسلم وغير المسيحي المقيم في بلاد إسلامية، لم يكن هناك مخالفة؛ لأن المسلم لا يعتبر في بلاد الإسلام أجنبياً، كما أن غير المسلمين المقيمين في البلاد الإسلامية يتوارث بعضهم من بعض .