هل يلزم القاضي السعودي أن يستجيب لرأي محكمة التمييز مطلقًا؟.
أن القاضي إذا أصدر حكمه في القضية المعروضة عليه فإن الأنظمة القضائية تعطي الطرَف المحكوم عليه حق الاعتراض على الحكم، وطلب رفعه إلى جهة قضائية أعلى تتولى تدقيق الحكم وتمييزه، أو تتولى استئناف النظر في القضية؛ أي: إعادة النظر فيها من جديد من قِبل محكمة أعلى من المحكمة الأولى التي أصدرت الحكم الأوَّلي أو الابتدائي.
وأن الباب الحادي عشر من نظام المرافعات السعودي الصادر عام 1421هـ قد خُصص لطرق الاعتراض على الأحكام، وقد انتظم هذا الباب في ثلاثة فصول، الأول “أحكام عامة” في خمس مواد، وأما الفصل الثاني فيستعرض إجراءات وأحكام الاعتراض بطلب “التمييز” في ثلاث عشرة مادة.
فالمادة السابعة والثمانين بعد المائة من نظام المرافعات:
تبين موقف القاضي من الحكم إذا لاحظت عليه محكمة التمييز،
فهل يلزم القاضي أن يستجيب لرأي محكمة التمييز مطلقًا؟ أم أن له أن يتمسك بحكمه ولا يرجع عنه؟
وهذه مسألة مهمة، تتبين فيها مفاصل القضاء وقواعده الراسخة والشخصية المستقلة للقاضي،
ونص المادة السابعة والثمانين بعد المائة:
(إذا ظهر لمحكمة التمييز ملحوظات على الحكم، فعليها أن تعد قرارًا بذلك وترسله إلى القاضي، فإذا لم يقتنع بملحوظات محكمة التمييز فعليه إجابتها بوجهة نظره بعد أن يدون ذلك في دفتر الضبط، أما إذا اقتنع بها فيعرضها على الخصوم، ويسمع أقوالهم، ويثبت ذلك في دفتر الضبط، ثم يحكم فيها، ويكون حكمه هذا خاضعًا للتمييز إذا تضمن تعديلًا للحكم السابق).
وأوضحت اللائحة التنفيذية للمادة أن القاضي يدون في الضبط قرار محكمة التمييز، وما يجيب به عليه، ويلحق خلاصة وافية من ذلك في صك الحكم.
وللقاضي أن يأخذ بملحوظات محكمة التمييز إذا رآها وجيهة، وله العدول عنها إذا ظهر له أنها لا تؤثر فيما ظهر له وحكم به.
وفي هذه الحالة ما موقف محكمة التمييز؟
عن ذلك تجيب المادة الثامنة والثمانون بعد المائة:
(على محكمة التمييز في حال اقتناعها بإجابة القاضي عن ملحوظاتها أن تصدق الحكم، وفي حال عدم اقتناعها وتمسُّك القاضي برأيه فلها أن تنقض الحكم كله أو بعضه بحسب الحال مع ذكر المستند وإحالة القضية إلى قاضٍ آخر.
ومع ذلك إذا كان الموضوع بحالته صالحًا للحكم، واستدعت ظروف القضية سرعة الإجراء، جاز لها أن تحكم فيه، فإذا كان النقض للمرة الثانية وجب عليها أن تحكم في الموضوع، وفي كل حال تحكم فيها يجب أن يتم حكمها بحضور الخصوم وسماع أقوالهم، ويكون حكمها قطعيًّا بالإجماع أو بالأكثرية).
وأوضحت اللائحة التنفيذية للمادة أن تصديق الحكم أو نقضه من قِبل محكمة التمييز يكون بإجماع قضاة الدائرة المختصة، أو بالأكثرية.
ومن المعلوم أن تدقيق الحكم في محكمة التمييز يكون من قِبل دائرة تُؤلَّف من ثلاثة قضاة أو خمسة حسب نوع الحكم.
ولذا إذا أيد الحكم أحد أعضاء الدائرة بمحكمة التمييز، وخالفه اثنان، لكل واحد منهما وجهةُ نظر لا يمكن الجمع بينهما، فعلى رئيس محكمة التمييز ندب قاضٍ آخر للاشتراك مع الدائرة، فإن أيد الحكم صارا أكثرية وَصَدَّقَا الحكم، وإن أيد أحد الرأيين المخالفين فقد صارا أكثرية، فتتم الملاحظة أو النقض.
وقرار تصديق الحكم أو نقضه المظهر به الصك أو القرار، ينقل على الضبط والسجل.
وإذا نُقض الحكم وأحيلت القضية إلى قاضٍ آخر، فإنه ينظرها من جديد.
وإذا نقض الحكم في قضية، ولم يكن في المحكمة سوى القاضي المنقوض حكمه، فيحيلها إلى أقرب محكمة في المنطقة.
وإذا نظرت محكمة التمييز القضية بعد نقضها للحكم، فتتبع الإجراءات المقررة في هذا النظام، ويكون حكمها قطعيًّا بالإجماع أو الأكثرية، فإن تشعبت الآراء لأكثر من رأيين، فيندب رئيس محكمة التمييز أحد الأعضاء حتى تحصل الأغلبية في الحكم.
وإذا نقضت دائرة في محكمة التمييز حكمًا، ثم حكم فيه من جديد لدى قاضٍ آخر واعترض عليه، فيحال للدائرة التي نقضت الحكم الأول لتدقيقه، سواء أكان أعضاؤها ممن نقضوا الحكم أم غيرهم.
وواضح من هذه المواد استقلالية القاضي في حكمه ورأيِه، سواء عند الحكم الابتدائي، أو عند التدقيق في محكمة التمييز.
وهذا هو الأصل في القاضي، أن يكون مستقلًّا برأيه واجتهاده وَفْقَ ما يذكره الخصوم من أقوال، أو يبرزونه من بيِّنات.
ويدرك القضاة أن لكل قضية شجونها وتفصيلاتها التي تختلف بها عن قضية يُظن أنها مماثلة لها، وهذا مدرك قضائي يغيب عن غير المختصين.
وكم وقع البعض في أعراض القضاة بسبب عدم إدراكهم لطبيعة الوظيفة القضائية وما تستلزمه من تمحيص وتدقيق.
وأما المادة التاسعة والثمانون بعد المائة:
فتبين الإجراء اللازم إذا تعذر إرسال الملحوظات إلى القاضي الذي أصدر الحكم، ونصها: (إذا تعذر إرسال الملحوظات إلى القاضي الذي أصدر الحكم لموت أو غيره، فعلى محكمة التمييز إرسالُ ملحوظاتها إلى القاضي الخلف، أو نقض الحكم مع ذكر الدليل).
وأوضحت اللائحة التنفيذية للمادة أن على القاضي الخلف أن يعيد جميع المعاملات التي عليها ملحوظات على سلفه إلى محكمة التمييز، للتوجيه بما يلزم بشأنها؛ وذلك لأن القاضي ممنوع من التعرض لحكم سلفه إلا بإذن محكمة التمييز؛ لأن للحكم القضائي هيبتَه وصيانته، ولكيلا تكون الأحكام القضائية محلًّا للتعديل دون موجب نظامي.
وأما المادة التسعون بعد المائة:
فتوضح ما يترتب على نقض الحكم من قِبَل محكمة التمييز، ونصها: (يترتب على نقض الحكم إلغاء جميع القرارات والإجراءات اللاحقة للحكم المنقوض متى كان ذلك الحكم أساسًا لها).
وفي المادة الحادية والتسعين بعد المائة: (إذا كان الحكم لم ينقض إلا في جزء منه بقي نافذًا في أجزائه الأخرى ما لم تكن التجزئة غير ممكنة).
وذلك لأن بعض الأحكام القضائية تشتمل على بنود متعددة حكم بها القاضي، وقد يسلَم بعضُ هذه البنود من الاعتراض المؤثر فتبقى سارية نافذة ما لم تكن التجزئة غير ممكنة…