نظام تعيين القضاة وفقاً لاحكام الشريعة الاسلامية
المسألة التالية في شروط اختلاف اختيار القاضي هو (نظام انتخاب القاضي) ،لا يسمح الاسلام بهذا النظام إلا في حالة الضرورة القصوى ،كما يرفض أن يُعين شخص نفسه في منصب القضاء دون أن يعيَّنه الإمام أو الرئيس ،لأن منصب القضاء منصب خطير ،وهو سيكون ممثلًا للرئيس نفسه الذي هو ممثل للأمة بأكملها, ولذلك الأصل أن يكون تعيين القاضي في النظام التشريعي الإسلامي إنما هو بطريق التعيين ،يعينه الرئيس او السلطان ،أو الخليفة ،أو الملك ،أو ما يوليه بالإنابة عنه في ذلك كله.
على أي حال هو لا يعين نفسه ولا يُنتخب ،ولا ينتخبه مجلس علماء أو مجلس شعب ولا بطريق مباشر ،ولا بغير مباشر ،إنما يُعينه الرئيس فقط ليعاونه في شئون الحكم حتى يحقق الجميع مصلحة واستقرار الأمة.
اختيار القضاة يعني طريق الانتخاب لا يكون في الإسلام إلا في حالة نادرة ،كما هو الحال مثلًا لو كانت تلك البلاد تقع تحت الاحتلال ،أو كانت هذه الدولة محاصرة ،عند الوقوع تحت الاحتلال أو الحصار يمكن في هذا الحالة أن يتمَّ تعيين القاضي عن طريق الانتخاب أو عن طريق الاختيار من مجلس الشعب أو غيره ،وتكون هذه حال الضرورة ،فالضرورات-كما هي القاعدة-تبيح المحظورات ،لكن أيضًا الضرورة تقدَّر بقدرها ،بمعنى:أن هذا الذي يختار من مجلس الشعب ليكون قاضيًا في حال الضرورة حتى يتحقق مصالح الناس ،هذا الاختيار يكون في مدة الاحتلال ،أو في مدة الاستعمار ،أو في مدَّة الحصار فقط ،فإذا انتهت هذه المدة رجعنا إلى التعيين عن طريق الرئيس أو مَن ينوب عنه ،لأن الضرورة تقدَّر بقدرها ،كما أنه كما قلت ليس لأحد من الرعية-مهما علت مكانته أو سمت منزلته-أن يُقلّد نفسه القضاءَ ،القضاء منصب نائب عن الأمة ،لا يعينه إلا النائب عن الأمة الممثل لها الذي اختارته ، وهو الرئيس.
ولو أصبح تولّي القضاء حتى بالنسبة لشخص معين فرض عين ،لأنه لا يوجد من يصلح لهذا المنصب إلا هذا الشخص ،مع ذلك لا يجوز له أن يُنصّب نفسه للقضاء حتى يُنصّبه الرئيس أو من ينوب عنه.
ولكن كيف يتم تعيين الرئيس القاضي؟!
يتم هذا التعيين أو هذا التقليد ،بوسيلة عقد بين الرئيس أو مَن ينوب عنه والشخص الذي سيتولى القضاء ،فيه إيجاب وقبول ،إذا كان هذا الشخص المزمع تقليده للقضاء حاضرًا وتوافرت فيه الشروط ورأى الرئيس أو نائبُه أن يعينه قاضيًا ،فهو يطلب منه ذلك ،أو يقول:قد عينتك في منصب الفلاني ،بطريق واضحة و صريح تدل على أن الرئيس يريد أن يعيّن هذا الشخص في منصب القضاء وله يقبل أو يرفض .
،وإذا كان غائبًا فإن الرئيس يكتب إليه كتابًا يطلب فيه أن يتقلَّد منصب القضاء ،إما أن ينفذ وإما أن يرفض.
هل ضروري أن يقوم الرئيس باختبار هذا الشخص أو لا ؟
الأمر جائز أن يقوم الرئيس باختبار هذا الشخص إذا كان لا يعرفه ،أو إذا كان يعرفه بالعلم والفضل وتوافر كل الصفات التي تؤهله لأن يكون قاضيًا عادلًا ، فلا داعيَ لهذا الاختبار.
ومن الممكن أن يجدّد اختباره لا بأسَ بذلك ،فأمر مباح ،لكن الأصل أنه ما دام الرئيس أو نائبه أو مَن له تعيين القضاة كقاضي القضاة ومَن على شاكلته إذا كان يعرف هذا الشخص ،يعرفه بالعلم والفضل والصفات التي تؤهله له أن يعينه دون اختبار ،إذا كان لا يعرفه من الواضح أنه حتى يتحمَّل هذه المسئولية ،فعليه أن يختبره.
وفي كل الأحوال قد حدث من الرسول صلي الله عليه وسلم كلا الأمرين ،أنه عيَّن سيدنا عليًّا رضي الله القضاءَ دون أيّ اختبار أو امتحان له ،وذلك لأنه يعرف سيدنا عليًّا ،ويعرف مدى توافر صفات القاضي الممتاز فيه ،فهو صهره ،وابن عمه ،وأول مَن آمن وأسلم من الصبيان ،تربى في بيت النبوة ،فإذًا هو يعرفه فلا داعي لاختباره.
لكن نرى أن النبي صلي الله عليه اختار أحيانًا بعض القضاة وأجرى لهم بعضَ الاختبارات ،فالنبي صلي الله عليه وسلم ثبت عنه أنه اختار سيدنا معاذ بن جبل ،وقبل أن يرسله إلى المكان الذي طلب منه أن يتقلَّد القضاء فيه وهو ناحية من نواحي اليمن ،اختبره قال:(كيف تقضي إن عرض لك قضاء؟ قال: أقضي بكتاب الله ،قال: فإن لم تجد؟ قال: فبسنة رسول الله قال: فإن لم تجد؟ قال معاذ: أجتهد رأيي ولا آلو).
يعني: ولا أقصّر في بذل الجهد في محاولة استنباط واخراج الحكم الجديد الذي لا يوجد في كتاب الله ولا في سنة رسول الله فاقره النبي صلي الله عليه وسلم وبدَا عليه الرضا عنه ،وقال: (الحمد لله الذي أرضَى رسولَ الله عن رسولِ رسول الله).
كذلك كانت سنة الخلفاء الراشدين وفي مقدمتهم سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله فقد روى لنا الشعبي-وهو أحد علماء التابعين-أن كعب بن سور كان جالسًا عند سيدنا عمر بن الخطاب فجاءته امرأة ،فقالت: يا أمير المؤمنين ،ما رأيت رجلًا قط أفضل من زوجي ،والله إنه ليبيت ليله قائمًا ،ويظل نهاره صائمًا في اليوم الحر ،حار ما يفطر ،فاستغفر لها عمر. أي: قال لها: غفر الله لكي ،يعني: إنك سيدة فاضلة وزوجة صالحة ،المرأة استحيت وانصرفت ،فقال له صاحبه كعب بن سور: “يا أمير المؤمنين ،هلا أعديت المرأة على زوجها؟”. يعني: هلا أخذت لها حقها من زوجها؟ فقال له سيدنا عمر: “وهل هي تشتكي زوجها؟ إنها تمدحه “. بأنه يقوم الليل ويصوم النهار. قال: “لا يا أمير المؤمنين ،يبدو أنها غير راضية عن زوجها ،فأمر عمر برد المرأة ،فلما عادت قال لها: هل أنت تشكين إليَّ زوجك؟ قالت: نعم يا أمير المؤمنين ،فإنه غير راغب في النساء ،وأنا امرأة شابة ،أريد وأطلب ما تطلبه النساء من مثيلاتي ،فقال عمر بن الخطاب لهذا الرجل الصحابي-كعب بن سور:أما وقد عرفت قضيتها ،فعليك أن تحكم بينها وبين زوجها ،فقال كعب بن سور:أحكم أنني أفترض أنه متزوج بأربع زوجات ،فمن حقه أن يقوم الليل ويصوم النهار ثلاثة. أنه متزوج أربعة فله الحق في ثلاث غير هذه المرأة ،ولكن الليلة الرابعة لها لا يقوم فيها حتى يؤدي حق زوجته عليه ،فقال له: اذهب ،فقد وليتك القضاءَ في مكان كذا”.
فهذا نوع من الاختبار اختبر به سيدنا عمر بن الخطاب ،وقد جاء هذا الاختبار عن طريق الموافقة أو الصدفة بغير استعداد له ،ولكن هذا الموقف كشف لسيدنا عمر في كعب بن سور عن قاضٍ ذكي فطن لبيب ،ولذلك قال الشعبي:قال عمر بن الخطاب:”اذهب فقد عينتك القضاء في مكان كذا وكذا”.
وتعيين الحاكم العام أو نائبه لمن تتوافر فيهم الأهلية والصلاحية في وظيفة القضاء ،هذا لا يمنع أن يقضي في الخصومات التي قد يكون من عينه طرفًا فيها ،فالتاريخ الإسلامي أخبرنا عن نماذجَ متعددةً وقف فيها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ،ووقف فيها سيدنا علي بن أبي طالب وكان أميرَ المؤمنين، وقف فيها غيره في مكان أمام القاضي الذي عينه ليحكم بينه وبين خَصمه.
ويجوز تقليد القضاء من السلطان العادل والجائر ،يعني: يجوز جدًّا للعادل أو من تتوافر فيه صفات القاضي ويصلح لهذا المنصب ،أن يقبل القضاء من الرئيس العادل ،وله أن يقبله أيضًا من الرئيس أو السلطان الجائر ،لكن إذا كان السلطان جائرًا ،فيشترط أن يثق الذي يطلب تقليده القضاء في أن هذا الحاكم أو الإمام أو الخليفة الجائر ،لن يتدخل في أحكامه ولن يتدخل في شئون القضاء ،إذا لم يثق في هذا؛فعليه أن يرفض أن يتقلد القضاء لسلطان جائر لأنه إن تقلده مع علمه بأن هذا السلطان سيتدخل في شئونه القضائية، ويجعله يرفض-يعني: يجعله يحكم بغير الحق-فعليه أن يرفض؛ لأن ذلك طريق من طرق الدخول في الظلم ،وظلم الناس حرام ،فمن يختار أو من يُطلب منه أن يتقلد منصب القضاء إذا كان من سيسند إليه هذا المنصب عادلًا ،فعليه أن يقبل ما دام مؤهلًا لذلك.
ولذلك يقول أحد العلماء:وعلى كلٍّ فمن يتقلَّد القضاء من السلطان الجائر الذي يتدخل في القضايا ويوجه القضاة إلى غير الحق ،سواء قَبِل أو لم يقبل، ولكن أُرغم على أن يعين في هذا المنصب ،فإن أحكامه تنفذ ،فإذا تغير العهد وتولى الحكمَ الشخص الصائب إعادة النظر في الأحكام ،ونقضت ما كان مخالفًا للعدل منها.