مناقشة لمبدأ سلطان الإرادة وحصر هذا المبدأ في دائرة محدودة
نقد مبدأ سلطان الإرادة ووضع الأمور في نصابها
انتكاص مبدأ سلطان الإرادة ( نقد المبدأ ):
إذا ارجعنا انتصار مبدأ سلطان الإرادة إلى عوامل اقتصادية ، وهي العوامل التي أدت إلى انتشار روح الفردية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ، فهذه العوامل ذاتها بعد أن تطورت ، وقامت الصناعات الكبيرة ، وتاسست الشركات الضخمة ، ونظمت طوائف العمال على اثر اختلال التوازن بين القوات الاقتصادية ، مما أدى إلى انتشار روح الاشتراكية وقيامها في وجه المذاهب الفردية ، هذه العوامل كما قلنا كان من شانها أن تنقص من سلطان الإرادة . فيكون هذا المبدأ قد قام على أساس اقتصادي ، وانتكص متأثراً بعوامل اقتصادية .
ويتولى خصوم المبدأ تفنيد النتائج التي وصل إليها أنصاره . فيقولون إن جعل الإرادة مصدراً لكل الحقوق فيه إغراق في نواح ووهم في نواح أخرى . فالالتزامات التعاقدية ذاتها وهي مبنية على توافق إرادتين لا تستند إلى محض الإرادة الداخلية ، والمتعاقد لا يتقيد بتعاقده لأنه أراد ذلك فحسب ، بل هناك اعتبارات اجتماعية ترجع للثبات والاستقرار الواجب توافرها في المعاملات والثقة التي يولدها التعاقد في نفوس المتعاقدين،
وهي التي تستند إليها قوة الإلزام في العقود . وقد لا يتم اتحاد حقيقي بين الإرادتين عند التعاقد ، ومع ذلك فاتحادهما حكما يكفي ما دام التعاقد قد ولد ثقة مشروعة يترتب على الإخلال بها ضرر . وما العقد إلا نظام من النظم الاجتماعية يراد به تحقيق التضامن الاجتماعي وتوجيه الإرادة في هذا السبيل ، وليس الغرض منه تحقيق ما للإرادة من سلطان . وهناك نظرية ألمانية لا تحفل بالإرادة الباطنة ولا تجعل لها سلطاناً ، بل تنظر إلى الإرادة الظاهرة لأنها وحدها الشيء المحسوس كحقيقة اجتماعية ، وهي التي يؤبه لها لأنها تولد الثقة المشروعة .
أما إسناد مصادر الالتزام الأخرى إلى الإرادة فالحجة فيه أوهي . وقد تبين أن ما يسمى بشبه العقد لا يشبه العقد في شيء من حيث استناده إلى الإرادة كما أن الجريمة وشبه الجريمة إنما يتولد الالتزام فيهما من القانون ، وهو التزام يترتب على عكس مقتضى إرادة من صدر منه العمل غير المشروع ، فإن هذا لم يرد أن يلتزم بعمله ، بل أراد النقيض من ذلك ، فيلزمه القانون رغماً عن إرادته ، فأين نحن هنا من سلطان الإرادة ! ولقد كانت نظرية سلطان الإرادة عائقاً يحول دون الأخذ بمسئولية المجنون والطفل والأخذ بالمسئولية المادية وهذه مذاهب تطورت إليها الشرائع الحديثة ، وفي الأخذ بها إلى مدى معين إرضاء للعدالة ، ومطاوعة لأسباب الاستقرار ، وسير في طريق التقدم .وإذا تركنا الالتزامات جانباً ونظرنا إلى الحقوق الأخرى التي يزعمون أن مصدرها الإرادة ، رأينا أن وهم القائلين بهذا الرأي هنا أيضاً يتجسم . فالملكية ليست إرادة المالك ، بل إن هذه الإرادة يرد عليها قيود متعددة ترجع إلى التضامن الاجتماعي ، وبخاصة ما يتصل منه بمراعاة حسن الجوار . وليس الميراث مبنياً على وصية مفترضة ، بل الواقع من الأمر أن الميراث سبق الوصية في التطور التاريخي ، وأساسه اشتراك الأسرة في ملكية الأموال . أرأيت لو كان المورث طفلا أو مجنوناً أكان يصح الزعم بان ميراثه وصية مفترضة وهو لا يستطيع أن يترك وصية صريحة ! كذلك روابط الأسرة لم ينظمها عقد الزواج ، فإن هذا العقد إنما وضع الزوجين في مركز قانونين نظمه المشرع نفسه طبقاً لصالح المجتمع وصالح الأسرة ، ولا دخل لإرادة الزوجين في ذلك . أما القول بان المجرم قد ارتضي توقيع العقوبة عليه فهو قول أقرب إلى التهكم منه إلى الحقيقية ، وإلا فأي مجرم رأى في العقوبة جزاء ارتضاه لنفسه ! إنما العقوبة ترجع في مشروعيتها إلى اعتبارات اجتماعية لا دخل لإرادة المجرم فيها .
وضع الأمور في نصابها – إلى أي حد تسيطر الإرادة على العقود:
تبين من نقد مبدأ سلطان الإرادة أن الخطأ الذي وقع فيه أنصار هذا المبدأ هو اتخاذه مبدأ مطلقاً في كل نواحي القانون . وهذه المبالغة كانت سبباً في مبالغة تعارضها ، وقام خصوم المبدأ هم أيضاً يقولون بنبذه مرة واحدة . وبين الامعان في إطلاق المبدأ إلى أوسع مدى والمبالغة في رده إلى أضيق الحدود ، وجد المعتدلون مجالا لوضع الأمور في نصابها الصحيح .
ونحن إذا توخينا الاعتدال وجانبنا التطرف ، تبينا أن الإرادة لا سلطان لها في دائرة القانون العام . فالروابط الاجتماعية التي تخضع لهذا القانون إنما تحددها المصلحة العامة لا إرادة الفرد . أما العقد الاجتماعي المزعوم فقد أصبح نظرية عتيقة مهجورة .
وإذا انتقلنا إلى دائرة القانون الخاص ، فما يتعلق منها بالأسرة لا مجال للإرادة فيه إلا بقدر محدود . فعقد الزواج ، وهو الأساس الذي ترتكز عليه الأسرة ، مصدره إرادة المتعاقدين ، ولكن الآثار التي تترتب على العقد ليست خاضعة للإرادة ، بل ينظمها القانون طبقاً لمصلحة الأسرة والمجتمع . وكذلك بقية روابط الأسرة لا شأن للإرادة فيها.
وما يتعلق من دائرة القانون الخاص بالأموال نرى الإرادة تنشط فيها تدرجاً . وهي في الحقوق العينية اضعف نشاطاً منها في الحقوق الشخصية . فإن الحقوق العينية ، وإن كانت الإرادة مصدراً لكثير منها ، حقوق محصورة لا تستطيع الإرادة أن تخلق شيئاً جديداً فيها . ثم إن آثار هذه الحقوق لا تخضع لإرادة الأفراد إلا نادراً ، بل إن القانون هو الذي يتولى في الغالب تحديد مداها .
ولكن الإرادة في الحقوق الشخصية لها مجال واسع ، فهي مصدر لكثير من هذه الحقوق ، وهي التي ترتب آثارها . ومع ذلك لا نريد أن نبالغ في أهمية الإرادة حتى في الحقوق الشخصية . فإنها إذا كانت من أهم المصادر لهذه الحقوق فإن ذلك لا يمنع من أن يوجد بجانبها مصادر أخرى قد تعدلها في الأهمية كالعمل غير المشروع ، أو تقرب منها كالإثراء بلا سبب .
وإذا خلصنا إلى الالتزامات التعاقدية وجدنا الإرادة تجول في هذا الميدان أوسع ما تكون خطىَ وأبعد ما تكون مدى .
ولكن حتى في هذا الميدان ، إذا نظرنا إلى الإرادة من حيث إنها ترتب أحكام الالتزامات التعاقدية ، وجدنا إنها محدودة في ذلك بقيود النظام العام والآداب .
بل إن إرادة الفرد – حتى في داخل هذه القيود – يضعف أثرها في بعض العقود التي تضع نظاماً ثابتة للطوائف والجماعات ، كما في الجمعيات والشركات والنقابات ، فهذه تنظمها الجماعة التي تنتمي إليها ولا تعتد في تنظيمها بإرادة كل فرد من أفرادها . وهناك عقود الجماعة ( contrats collectifs ) ، كعقد العمل الجامع-الجماعي ( contrat collectif du travail ) ، وصلح أغلبية الدائنين مع المفلس ، نرى فيها الأقلية تخضع لإرادة الأغلبية . كذلك توجد قيود على حرية الإرادة ترجع لاختلال التوازن بين القوى الاقتصادية وأنصار القانون للجانب الضعيف ، كما نرى في تشريع العمال وفي عقود الإذعان وفي نظرية الاستغلال وهي نظرية تتوسع تدرجاً في القوانين الحديثة حتى تتناول كل العقود ثم إن الإرادة وهي في دائرة كل هذه القيود لا تزال خاضعة أيضاً لشكلية تتطلبها بعض العقود حماية للمتعاقد الذي يقدم على أمر خطير كما في الهبة والرهن الرسمي . وهي تخضع كذلك لقواعد الشهر حماية للغير حسن النية . وتخضع أخيراً لقواعد الإثبات وهي قواعد من شانها أن تقيد سلطان الإرادة من الناحية العملية .
هذه هي الحدود التي يرسمها القانون في الوقت الحاضر ميداناً لسلطان الإرادة . فهو يعترف بهذا السلطان ، ولكن يحصره في دائرة معقولة ، تتوازن فيها الإرادة مع العدالة والصالح العام.