بحث قانوني حول وضع نظرية عامة لجرائم الاشتباه
مجلة المحاماة – العدد العاشر
السنة الرابعة والثلاثون1954
محاولة لوضع نظرية عامة لجرائم الاشتباه
المنصوص عنها في المرسوم بقانون رقم (98) لسنة 1945
بحث للسيد الأستاذ طاهر شاش وكيل نيابة بور سعيد
دفعني إلى هذا البحث ما نلاقيه نحن المشتغلين بالقانون من صعوبات كثيرة في تطبيق أحكام المرسوم بقانون رقم (98) لسنة 1945 فيما يتعلق بجرائم الاشتباه، فلقد ذهبت المحاكم المختلفة في تفسيره وتطبيقه مذاهب شتى يختلف كل منها عن الآخر تمام الاختلاف ولا تربط أحكامه روابط معينة يمكن تجميعها لاستخلاص قواعد محددة يُعتمد عليها في تفسير نصوص هذا المرسوم بقانون اللهم إلا أحكام مفرقة أصدرتها محكمة النقض المصرية وضمنتها مبادئ معينة يجوز الاعتماد عليها في وضع نظرية عامة لجريمة الاشتباه في القانون المصري.
وبعد، فقد نصت المادة (5) من هذا المرسوم بقانون على أنه:
(يعد مشتبهًا فيه كل شخص يزيد سنه على خمس عشرة سنة حُكم عليه أكثر من مرة في إحدى الجرائم الآتية أو اشتهر عنه لأسباب مقبولة بأنه اعتاد ارتكاب بعض هذه الجرائم):
1 – الاعتداء على النفس أو المال أو التهديد بذلك.
2 – الوساطة في إعادة الأشخاص المخطوفين أو الأشياء المسروقة.
3 – تعطيل وسائل المواصلات أو المخابرات ذات المنفعة العامة.
4 – الاتجار بالمواد السامة أو المخدرة أو تقديمها للغير.
5 – تزييف النقود أو تزوير أوراق النقد الحكومية أو أوراق البنكنوت الجائز تداولها قانونًا في البلاد أو تقليد أو ترويج شيء مما ذُكر).
وواضح من هذا النص أن المشرع قد قصد أن يضع تعريفًا للشخص الذي يُعتبر مشتبهًا فيه فحدد جرائم معينة ظاهر من المادة أنه ذكرها على سبيل الحصر واعتبر الشخص (مشتبهًا فيه) في أحد حالين:
أولاً: إذا حُكم عليه أكثر من مرة في إحدى هذه الجرائم.
ثانيًا: إذا اشتهر عنه لأسباب مقبولة أنه اعتاد ارتكاب بعض هذه الجرائم.
وتثور الصعوبة لأول وهلة عند هذا التعريف، فالمعتاد أن يكون الركن المادي لأية جريمة فعلاً محددًا سواء كان فعلاً إيجابيًا أو فعلاً سلبيًا (امتناعًا) فيقال مثلاً السرقة هي اختلاس مال منقول مملوك للغير بقصد امتلاكه، وجريمة الامتناع عن الشهادة تقوم بامتناع الشاهد عن الحضور للأداء بشهادته أمام القاضي.
أما في تعريف المشرع للشخص المشتبه فيه أو بمعنى آخر تعريفه لجريمة الاشتباه فقد أورد النص حالين هما:
1 – الحكم على الشخص أكثر من مرة.
2 – الشهرة باعتياده ارتكاب بعض هذه الجرائم المحددة.
وليس (الحكم) أو (الشهرة) فعلاً محددًا يرتكبه المجرم فيعاقب عليه، هذه الصعوبة في رأينا هي الصعوبة الأساسية التي تتفرع منها وتقوم عليها الصعوبات العملية في تطبيق هذا التشريع.
فمن الأسئلة التي يثيرها هذا النص…
متى تقوم هذه الجريمة ؟.. هل بمجرد أن يُحكم على شخص أكثر من مرة في إحدى هذه الجرائم المعينة.. وهل تقوم الجريمة إذا حُكم عليه مرة في جريمة من المنصوص عليها في البند الأول مثلاً وفي أخرى من المبينة في البند الرابع من المادة الخامسة.
– هل تشترط مدة معينة يُحكم على الشخص خلالها أكثر من مرة لكي يُعتبر مشتبهًا فيه ؟
– متى تسقط هذه الجريمة بمضي المدة ؟
– أي المحاكم تختص محليًا بنظر الدعوى عن هذه الجريمة ؟ هل المحكمة التي أصدرت أيًا من الأحكام التي سبق صدورها ضد المتهم أم المحكمة التي أصدرت آخر حكم عليه أم هل هي المحكمة التي يقيم المتهم بدائرتها ؟
– هل تقوم الجريمة إذا كان الحكم الأول الصادر ضد هذا الشخص قد صدر ضده قبل صدور هذا المرسوم بقانون؟
– في أية صورة يتحقق العود لحالة الاشتباه إن كانت الجريمة نفسها لا تقوم إلا بصدور أكثر من حكم على المشتبه فيه ؟
– ما معيار هذه الشهرة وما المقصود بالأسباب المقبولة المنصوص عليها في تلك المادة ؟
هل هي شيء آخر يختلف عن صدور أحكام كثيرة على هذا الشخص المراد نسبة الجريمة إليه ؟
… وأسئلة أخرى كثيرة لا نجد الإجابة الشافية لها عند مجرد النظر إلى هذا النص سالف الذكر.
واعتقد أنه من الممكن أن نهتدي إلى إجابة لكل من هذه الأسئلة وغيرها لو أمكن تحديد نوع جريمة الاشتباه أي لو استطعنا وضعها في فصيلة من الفصائل التي جرى شراح القانون الجنائي على أن يقسموا الجرائم إليها فإن نوع كل جريمة هو الذي يحدد وضعها من القانون الجنائي ومن قانون الإجراءات الجنائية.
يقسم فقهاء القانون الجنائي الجرائم بالنظر إلى ركنها المادي إلى:
1 – جرائم إيجابية وجرائم سلبية.
2 – جرائم وقتية وجرائم مستمرة.
3 – جرائم بسيطة وجرائم عادية.
4 – جرائم مادية وجرائم شكلية.
فما وضع جريمة الاشتباه بالنسبة لهذا التقسيم ؟
يُحسن قبل أن نحاول إدراج جريمة الاشتباه في إحدى الأنواع السابقة أن نبين أهمية هذه المحاولة في حل المشكلات التي تصادفنا عند تطبيق مواد الاشتباه في العمل والتي أشرنا إلى بعض منها فيما سبق.
فالقول بأن جريمة الاشتباه من الجرائم الوقتية أو المستمرة يضع لنا حدًا للمشكلات التي تصادفنا عند بحث انقضاء الدعوى الجنائية فيها بالتقادم إذ في الجريمة الوقتية تبدأ مدة سقوط الدعوى من وقت ارتكاب الجريمة أما في الجريمة المستمرة فلا يبدأ سريان المدة إلا من وقت انتهاء حالة الاستمرار وكذلك بالنسبة للاختصاص المقرر فإن المحكمة المختصة بنظر الدعوى في الجريمة الوقتية هي التي وقعت هذه الجريمة في دائرتها دون غيرها أما في الجريمة المستمرة فالأصل أن تختص بنظرها جميع المحاكم التي قامت في دائرتها حالة الاستمرار – كما تهم هذه التفرقة في بحث قاعدة قوة الشيء المحكوم فيه فالحكم الصادر في جريمة وقتية لا يمنع من إعادة المحاكمة عن واقعة أخرى من نفس النوع الذي حُكم فيه تكون قد وقعت قبل رفع الدعوى أما الحكم الصادر في جريمة مستمرة فهو يحوز قوة الشيء المحكوم فيه بالنسبة لجميع الوقائع التي شملتها حالة الاستمرار قبل رفع الدعوى.
وكذلك الحال عند القول بأن جريمة الاشتباه من الجرائم البسيطة أو من جرائم العادة إذ تشبه جريمة الاعتياد الجريمة المستمرة في القواعد المقررة بالنسبة للاختصاص والتقادم وحجية الشيء المحكوم فيه.
فهل من الممكن أن نضع جريمة الاشتباه في نوع معين من أنواع الجرائم التي أشرنا إليها ؟
أن تقسيم الجرائم كما أسلفنا يتصل بركنها المادي والركن المادي لجريمة ما يستخلص من صياغة النص بها ولذا يتعين الرجوع إلى نص المادة الخامسة من قانون الاشتباه لاستخلاص هذا الركن المادي.
تُعرف المادة الخامسة المشتبه فيه بأنه الشخص الذي حُكم عليه أكثر من مرة… والشخص الذي اشتهر عنه أنه اعتاد… إلخ.
والحكم والشهرة أمران لا دخل لنشاط الجاني مباشرةً فيهما فالحكم يصدر من القاضي والشهرة تقوم لدى الناس ولا دخل للجاني في إذاعتها – فكأن الجاني يعاقب عن أمر لا يقوم مباشرةً بارتكابه وإنما يرتكب نوعًا معينًا من الجرائم فيحكم عليه فيها أو لا يحكم عليه وإنما يذيع عنه أنه معتاد ارتكابها – ففي الحالة الأولى يلقى الجاني جزاءين – جزاء يوقع عليه بالحكم عليه في الجرائم التي يرتكبها وجزء آخر يوقع عليه باعتباره مشتبهًا فيه بسبب صدور تلك الأحكام ضده – وفي الحالة الثانية يكون الجاني قد أفلت من العقاب على الجرائم التي ارتكبها لسبب ما فيلحقه عقاب الاشتباه.
غير أننا نلاحظ أنه في الحالة الأولى يلقى الجاني جزاءين عن فعل واحد ارتكبه وهو أمر غريب في باب التجريم إذ القاعدة ألا يحاكم الشخص جنائيًا مرتين عن فعل واحد ارتكبه قد يعاقب الشخص جنائيًا ومدنيًا أو جنائيًا وتأديبيًا لارتكابه فعلاً مجرمًا ولكن أن يعاقب مرتين بعقوبتين جنائيتين لارتكابه فعلاً واحدًا فهو أمر يدعو إلى التساؤل.
ينبغي إذا أن نفسر هذا الأمر تفسيرًا يفصل بين جريمته الأولى وجريمته الأخيرة فلا يكون الركن المادي في الجريمة التي ارتكبها الجاني في أول الأمر هو بذاته الركن المادي لجريمة الاشتباه فلا نقول مثلاً إن الركن المادي في جريمة الاشتباه هو بذاته فعل السرقة الذي ارتكبه الجاني مرتين فُحكم عليه مرتين فصار مشتبهًا فيه.
ويتعين علينا عندئذٍ ألا نخوض فيما هو أبعد من النص للوصول إلى النشاط الغير مباشر التي قام به الجاني ولكن يجب أن نعترف بأن المشرع قد خالف القاعدة العامة المتعارف عليها في تعريف الجريمة وهو وإن اختلفت الصيغ التي وضعها فقهاء القانون ينحصر في القول بأن الجريمة (كل عمل خارجي إيجابي أو سلبي نص عليه القانون وقرر له عقوبة جنائية إذا صدر بغير حق يبيحه عن إنسان مسؤول أخلاقيًا).
فالمشرع لم يحرم هذه المرة عملاً ارتكبه الجاني سواء كان إيجابيًا أو سلبيًا بل حرم صفة قامت لديه هي صفة الاشتباه.
ولكن ما هي صفة الاشتباه، ما تعريفها، ما حدودها وعناصرها وأركانها ؟
تعرفها المادة (5) بأنه الحكم على الشخص أكثر من مرة لارتكابه جرائم معينة أو اشتهار هذا الشخص بأنه اعتاد ارتكاب هذه الجرائم.
وأول ما يثور من الأسئلة بصدد هذا التعريف السؤال عما إذا كان مجرد الحكم على شخص مرتين يجعله مشتبهًا فيه – حُكم على شخص مثلاً عام 1920 في جريمة سرقة ثم حُكم عليه 1945 في جريمة سرقة أيضًا فهل يعد مشتبهًا فيه رغم مضي المدة الطويلة بين هذين الحكمين ؟
للإجابة على هذا السؤال ينبغي ألا نقف عند النص لتفسيره بما يظهر من عبارته وإلا كان تفسيرنا تحكميًا مجحفًا بالنسبة للمتهم – خاصةً وأن المشرع قد أورد في قانون الإجراءات الجنائية نصوصًا تقضي بأن المحكوم عليه بعقوبة ما يرد اعتباره قانونًا وبغير حكم من المحكمة إذا مضت مدة معينة تختلف بحسب الأحوال ويترتب على رد اعتباره محو الحكم القاضي بالإدانة بالنسبة للمستقبل وزوال ما يترتب عليه من انعدام الأهلية والحرمان من الحقوق وسائر الآثار الجنائية (المواد من 550 إلى 553 إجراءات جنائية) وإن كان الأمر كذلك فليس مستساغًا أن يعتد بحكم صدر على المتهم من مدة طويلة مضت.
وعلى ذلك ينبغي أن نتعرف على حكمة الشارع من سن نصوص خاصة بالاشتباه واهتمامه بتعريف الشخص المشتبه فيه ويبدو من استقراء الحالتين اللذين اعتبر المشرع الشخص مشتبهًا فيه عند قيام إحداهما أنه أراد حصر طائفة من المجرمين رأى بسبب خطورتهم أن يسن لهم أحكامًا خاصة بمعاملتهم وعقابهم، فالمعيار عنده إذا هو خطورة الشخص على المجتمع وهذه الخطورة تعرف في شخص ما إذا حُكم عليه أكثر من مرة لارتكابه هذا النوع المعين من الجرائم أو إذا اشتهر عنه أنه اعتاد أن يرتكبها وكانت الشهرة مبنية على أسباب مقبولة.
ولقد كانت المادة الثانية من القانون (24) لسنة 1923 بشأن المتشردين والأشخاص المشتبه فيهم تحدد فئات الأشخاص الذين يجوز اعتبارهم من المشتبه فيهم في ست فقرات وهم:
أولاً: الأشخاص المحكوم عليهم للقتل عمدًا أو الذين حُكم عليهم أكثر من مرة واحدة لارتكاب جريمة من جرائم التبديد وخطف الأشخاص والحريق عمدًا وتعطيل المواصلات والسرقة والنصب وتزييف النقود وإتلاف المزروعات وإعدام المواشي وانتهاك حرمة المساكن بقصد ارتكاب جريمة أو الشروع في ارتكاب هذه الجرائم إلا إذا كان مضى خمس سنين على عقوبته أو كانت تلك العقوبة قد سقطت بالتقادم.
ثانيًا: من تولت النيابة أكثر من مرة عمل تحقيق ضدهم أو إقامة الدعوى عليهم لجريمة من الجرائم المنصوص عليها في الفقرة السابقة أو لشروع في إحدى تلك الجرائم ولكن بسبب عدم كفاية الأدلة حفظت القضية أو صدر قرار بأن لا وجه لإقامتها أو حُكم فيها بالبراءة إلا إذا كان قد مضى خمس سنين على حفظ القضية أو إصدار القرار بأن لا وجه لإقامتها أو الحكم فيها بالبراءة أو كانت الدعوى العمومية قد سقطت بالتقادم.
ثالثًا: من صدر عليهم مرة واحدة حكم مما نص عليه في الفقرة الأولى من هذه المادة وكانوا مرة واحدة أيضًا محلاً لتحقيق أو لدعوى مما نص عليه في الفقرة الثانية إلا إذا أمكنهم الانتفاع بالمواعيد المنصوص عليها في الفقرتين السابقتين.
رابعًا: من يوجدون أكثر من مرة بين غروب الشمس وبين شروقها جائسين أو مختبئين في جوار قرية أو عزبة أو ضاحية أو أي مكان آخر يدعو إلى الشبهة ومن غير أن يكون لوجودهم سبب ما.
خامسًا: من اشتهر عنهم لأسباب جدية الاعتياد على الاعتداء على النفس أو على المال أو الاعتياد على التهديد بالاعتداء على النفس أو على المال أو الاعتياد على الاشتغال كوسطاء لإعادة الأشخاص المخطوفين أو الأشياء المسروقة.
سادسًا: من اعتادوا الاتجار بطريقة غير مشروعة بالمواد السامة أو بالمغيبات كالحشيش والأفيون والداتورة والكوكايين وغير ذلك.
وهذه المادة كما هو ظاهر قد أراد منها المشرع أن يحصر الفئات التي يعتبرها خطرة على المجتمع فنظم لها وضعًا معينًا وترك للبوليس والنيابة تطبيق هذا الوضع والمادة قد تعاوننا في تفهم غرض الشارع من تعريف الأشخاص المشتبه فيهم – فالفقرتان الثانية والثالثة من المادة سالفة الذكر تجعلان من بين الأشخاص المشتبه فيهم أشخاصًا لم يُقدموا للمحاكمة بالرغم من اتهامهم فهم وإن كانوا قد تمكنوا من الإفلات من العقوبة بسبب عدم كفاية الأدلة التي قامت ضدهم إلا أن هذا الأمر لا ينفي أنهم أشخاص خطرون بحيث يجوز اعتبارهم من المشتبه فيهم الذين يجب تمييزهم عن غيرهم بأوضاع قانونية خاصة.
فالأمر إذن أمر خطورة على المجتمع قبل أي شيء وليس أمر أحكام تصدر ضد أشخاص ما لمجرد صدورها ضدهم أكثر من مرة ما لم تدل هذه الأحكام على الخطورة.
ونلاحظ أن المادة الثانية من قانون الاشتباه القديم تحدد مدة معينة لإمكان الاعتماد على الأحكام أو قرارات الحفظ أو الأوامر بعدم وجود وجه لإقامة الدعوى خلالها مما يدل على أن الشارع لم يشأ في ذلك الوقت أن يترك تقدير الخطورة التي يتهم بها الشخص بغير رابط بل حاول أن يضع لها حدًا معينًا وهذا لا يعني أن المشرع قد أراد استبعاد هذا القيد أن يترك الأمر للفصل فيه كمسألة حسابية مجردة باعتبار الشخص مشتبهًا فيه عند الحكم عليه أكثر من مرة وإنما أراد أن يضع تقدير خطورة المتهم في يد القضاء حسبما يراه من أوراق الدعوى وهو إذ رفع الجزاء الذي كان يوقعه رجل البوليس أو رجل النيابة على المشتبه فيه ووضعه في يد القاضي قد اطمأن إلى حُسن تقديره لهذه الصفة لدى المتهم ووضع له قرينة يعتمد عليها في تقدير خطورة المتهم هي أن يحكم عليه أكثر من مرة في إحدى الجرائم المعينة – فكأن هذه القرينة لم تُوضع للقاضي لتحد من حريته في التقدير وإنما وضعت لتهديه فله أن يطرحها إذا رأى من بعد البون بين هذه الأحكام مثلاً أنها غير دالة على خطورة المتهم.. هي إذن قرينة قابلة لإثبات العكس وليست قاطعة ملزمة للقاضي.
هذا هو التفسير الذي يبدو لنا سليمًا لجريمة الاشتباه (الاشتباه صفة تقوم لدى أحد الأشخاص مؤداها أنه خطر على المجتمع بسبب ارتكابه جرائم معينة أو اشتهاره بأنه اعتاد ارتكابها – يدل عليها الحكم عليه أكثر من مرة فيها أو أسباب أخرى مقبولة).
فكأن الذي يطرح أمام القضاء هو (اتصاف شخص ما بأنه خطر على المجتمع لارتكابه أو اشتهاره بأنه اعتاد ارتكاب جرائم معينة).
ولنعد بعد هذا إلى ما سبق أن حاولناه من إدراج هذه الجريمة تحت نوع معين من الأنواع التي ذكرناها.
يبدو لنا لأول وهلة أنه من المتعذر إن لم يكن من المستحيل أن ننجح في هذه المحاولة لأنه كما قلنا ليس لهذه الجريمة الركن المادي المعتاد من ارتكاب فعل أو الامتناع عن فعل بل هو صفة لدى الجاني نعاقبه عليها، وليس ممكنًا أن نقول إن هذه الصفة تكون جريمة وقتية أو جريمة مستمرة، جريمة بسيطة أو جريمة عادية.
فهي إذن جريمة من نوع خاص، جريمة غير محددة في التشريع وإنما متروك تحديدها لتقدير القاضي يقدر قيامها أو عدم قيامها فإن رأى أن الأحكام التي حكم بها على المتهم لا تكفي للدلالة على خطورته بسبب طول المدة التي تفصل بين كل منها أو التي تفصل بين الحكم الأخير وتاريخ رفع دعوى على المتهم أو بسبب تفاهة الجرائم التي ارتكبها أو عدم تماثل النشاط الإجرامي لدى المتهم أو إذا رأى أن الشهرة التي ذاعت عنه بأنه معتاد ارتكاب هذه الجرائم غير قائمة على سبب مقبول إذا رأى هذا الأمر أو ذاك قضى ببراءة المتهم.
ويبدو من الأحكام التي أصدرتها محكمة النقض المصرية في هذا الصدد أن هذا هو الرأي الذي تدين به فهي تقول (إن السوابق لا تُنشئ الاتجاه الخطر الذي هو مبنى الاشتباه والذي يريد الشارع الاحتياط منه لمصلحة الجماعة بل هي تكشف عن وجوده وتدل عليه فهي والشهرة بمنزلة سواء) (مجموعة القواعد القانونية الجزء السابع صـ 243 في القضية 8 سنة 17 قضائية).
كما تقول (إن الشارع إنما أراد بالمرسوم بقانون (98) لسنة 1945 أن يوسع في سلطة القاضي بعد أن انتقل إليه ما كان قد عهد به في القانون السابق للبوليس والنيابة من سلطة الإنذار وتقدير حالة الاشتباه وذلك زيادة منه في تقرير الضمانات للمتهمين.. وإذن فإذا ما استقرأ القاضي من حال الشخص وسوابقه ما يقنعه بقيام الحال الخطرة والاتجاه الإجرامي اللذين يجعلان من صاحبهما مشبوهًا يخشى شره عجل بمراقبته أو اكتفى بإنذاره تبعًا لدرجة خطورته وإن استبان بأنه برغم الحكم عليه أكثر من مرة لم يندمج في ذمرة الأشرار الخطيرين أو اندمج ولكن أقلع واستقام بعد عثراته الماضية أخلى سبيله كما هو الشأن فيمن يعد مشبوهًا بناءً على الاشتهار لأن الاشتهار والسوابق قسيمان إبراز حالة واحدة ويتعادلان في الاستدلال على وجودها) (الكتاب السابق صـ 175 القضية 1415 سنة 16 قضائية).
وتقدير القاضي لخطورة المتهم كما قلنا غير محدد وليس يحكمه ضابط معين وإنما قد يعتمد القاضي على أن الأحكام الصادرة ضد المتهم (من الجسامة أو الخطرة أو التعاقب أو التعاصر أو التماثل.. إلخ تكفي لإقناع القاضي بأن صاحبها ما زال خطرًا يجب التحذر منه) (نقض المجموعة السابقة في القضية رقم 8 سنة 17 قضائية).
وهذا الفهم لجريمة الاشتباه يضع لنا حلولاً مقبولة للمشكلات العديدة التي تصادقنا أثناء تطبيق نصوص القانون.
فقد تساءلنا في بداية هذا البحث عن المدة اللازم مضيها بين كل حكم صادر ضد المتهم – أو بين الحكم الصادر أخيرًا ضده وبين تاريخ رفع الدعوى عليه أو بعبارة أخرى تساءلنا عن المدة اللازم مضيها لانقضاء الدعوى الجنائية عن هذه الجريمة بالتقادم.
وتطبيق النظرية العامة التي فصلناها فيما سبق نضع إجابات مقبولة لهذه الأسئلة فالقانون لا يشترط مضي مدة معينة بين كل حكم صادر ضد المتهم كما أنه لا يمكن القول بأن هذه الجريمة تسقط بالتقادم لمضي مدة معينة أيضًا – إذ ما دمنا نعاقب المتهم على صفة فيه فالعبرة بالاقتناع بوجود هذه الصفة لديه أو بعدم وجودها أيًا كانت المدة التي تمضي بين هذه الأحكام وبين تاريخ رفع الدعوى الجنائية ضده أو بين الأحكام بعضها البعض فما الأحكام كما قلنا إلا قرينة على خطورة المتهم فإذا كانت قاطعة في الدلالة على هذا الأمر فإنه يستحق العقاب وإلا فيتعين الحكم ببراءته.
ولقد ذهب رأي إلى أن جريمة الاشتباه من جرائم العادة التي يجب طبقًا لما ذهب إليه الفقه الجنائي ألا تنقضي أكثر من ثلاث سنوات بين كل فعل من الأفعال التي تتكون بها هذه الجريمة كما أنه يجب ألا تنقضي أكثر من ثلاث سنوات على آخر فعل تتم به الجريمة وبين تاريخ رفع الدعوى وقد أسس أصحاب هذا الرأي رأيهم على ما ظهر لهم من عبارة المادة الخامسة من قانون الاشتباه من أنها تشير إلى (الحكم أكثر من مرة).. و(الاشتهار باعتياد ارتكاب بعض هذه الجرائم) ولكن هذا الرأي يصطدم كما قلنا بطبيعة جريمة الاشتباه التي لا يتفق ركنها (أنها صفة لدى الشخص) مع ركن جريمة العادة (وهي أفعال يلزم أن تنبئ عن العادة) وهذا الأمر وحده يكفي لإهدار هذا الرأي فإن كل المقصود من التشريع هو عقاب من توافرت لديهم صفة الخطورة فلا معنى لوضع حدود زمنية تحكمية وإنما الأمر متروك للقاضي تقديره – وقد يصلح عنصر الزمن إلى جانب العناصر الأخرى كأساس يقيم عليه القاضي اقتناعه أو عدم اقتناعه بخطورة المتهم الذي يحاكمه.
وتضع لنا النظرية العامة التي أشرنا إليها كذلك حدًا لمشكلة الاختصاص إذ أن معاقبة المتهم على صفة فيه تجعل المحكمة المختصة بنظر الدعوى هي المحكمة التي يقيم المتهم بدائرتها لأن هذه الصفة لاحقة به ويسهل إثباتها في المحيط الذي يقيم فيه.
كما تضع لنا أيضًا حدًا للمشكلة التي قد تثور عما إذا كانت الجرائم التي حددتها المادة الخامسة تستقل كل منها عن الأخرى بمعنى أنه يشترط لكي يعتبر الشخص مشتبهًا فيه أن يحكم عليه في نوع معين من الجرائم – جرائم الاعتداء على المال وحدها مثلاً أو جرائم الاتجار بالمخدرات..
ففي إلقاء نظرة على هذا النص نجد أن المشرع وإن كان قد رتب كل نوع من الجرائم في فقرات مختلفة إلا أن النص خالٍ مما يدل على وجوب أن يكون النوع الذي دأب المتهم على ارتكابه واحدًا بل هو تنظيم من لدى الشارع في الإمكان غض النظر عنه كأن لم تكن هذه الجرائم مقسمة إلى فقرات مختلفة – وذلك لأنه ما دام المقصود هو البحث فيما إذا كان المتهم متصفًا بصفة الخطورة على المجتمع فإن هذه الخطورة قد تستفاد من ارتكابه جرائم من أنواع مختلفة مما نص عليه الشارع، فقد يحكم عليه لجريمة قتل ويحكم عليه أيضًا لجريمة سرقة وجريمة الاتجار بالمخدرات ومع ذلك يرى القاضي نفسه إزاء متهم خطير على المجتمع نظرًا لتقارب هذه الأحكام وجسامة الجرائم التي ارتكبها فيحكم عليه باعتباره مشتبهًا فيه.
وقد قضت محكمة النقض المصرية بأن المتهم قد يعتبر مشتبهًا فيه إذا حكم عليه مرة لسرقة وأخرى للاتجار بالمخدرات وقالت في حكمها إنه (لا أهمية لكون المتهم لم يحكم عليه إلا مرة واحدة في جنحة مخدر ما دام القانون قد ذكر جريمتي السرقة والاتجار بالمخدرات بصدد تكوين حالة الاشتباه ولم ينص على وجوب أن تكون الجرائم التي ذكرها من نوع واحد بالنسبة إلى المتهم) (القضية 2105 سنة 17 قضائية جلسة 22/ 12/ 1947 – المجموعة السابقة صـ 431).
كذلك قد يثور التساؤل عما إذا كانت جميع الجرائم التي تتدرج تحت نوع معين مما نصت عليه المادة الخامسة تكون جريمة الاشتباه – مثلاً نصت المادة على جرائم الاعتداء على النفس فهل تعتبر جريمة الإصابة الخطأ مما يشمله هذا النص ؟
النظرية التي ذكرنا أساسها تضع حلاً لهذا السؤال – فالأمر ليس تطبيقًا مجردًا للنص كما قلنا وإنما يلزم أن تدل الجريمة على أن المتهم قد اتسم بالخطورة وفي أغلب الأحيان مثلاً لا تكون جريمة الإصابة الخطأ مما يدل على ذلك، وقد قضت محكمة النقض المصرية بأن جرائم الغش والتدليس لا تعتبر بصفة عامة من جرائم الاعتداء على المال فيجب للاعتداد بها في مقام الاشتباه أن يبين الحكم ما يبرر عدها اعتداءً على المال (القضية رقم 1951 سنة 18 قضائية جلسة 28 فبراير سنة 1949 المجموعة السابقة صـ 783).
بقي سؤال آخر قد يثور عنه تطبيق نص المادة الخامسة – سؤال عن حجية الشيء المحكوم فيه – متهم قُدم للمحاكمة في جريمة اشتباه بسبب الحكم عليه عام 1945 مثلاً لسرقة وعام 1950 لضرب ولكن المحكمة رأت أن هذين الحكمين لا يدلان على خطورة المتهم فقضت ببراءته وأصبح حكم البراءة نهائيًا ثم حكم على هذا المتهم عام 1951 لسرقة فهل من الممكن أن يُقدم للمحاكمة في جريمة اشتباه من جديد ؟
الصعوبة الظاهرة لأول وهلة مرجعها إلى أن الحكمين الأولين قد طرحا أمام المحكمة فقضت ببراءة المتهم فهل يعتمد عليها من جديد بالرغم من كونهما من عناصر الدعوى المحكوم فيها.
ولكن تطبيق النظرية التي فصلنا أحكامها والتي تقضي بأن الأحكام الصادرة ضد المتهم ما هي إلا قرائن على الخطورة لا تمنع القاضي من الاستدلال بها بالإضافة إلى عناصر أخرى على أن المتهم قد أصبح خطرًا يجب التحرز منه، وعلى ذلك فمن الجائز للقاضي أن يعتمد عليها في تكوين اقتناعه بخطورة المتهم.
وقد جرى قضاء محكمة النقض المصرية على أنه من الممكن الاستعانة بالأحكام السابقة على صدور المرسوم بقانون (98) لسنة 1945 في تكوين القاضي عقيدته عن خطورة المتهم والحكم عليه في جريمة الاشتباه وأوضحت أنها ترى أن السوابق لا تُنشئ الاتجاه الخطر بل هي تكشف عن وجوده فقط كما سبق أن ذكرنا.
ونتعرض الآن للشهرة باعتياد ارتكاب الجرائم الواردة في الفقرة الثانية من المادة الخامسة سالفة الذكر ولا أظن أننا في حاجة إلى تفصيل في شرحها بعد أن اعترضنا لتفصيل النظرية التي نأخذ بها في جريمة الاشتباه فشأنها شأن الأحكام الصادرة ضد المشتبه فيه – هي دليل على خطورته يستشفها القاضي من أوراق الدعوى وله كامل الحرية في تقدير قيامها وإنما يشترط الشارع أن تكون هذه الشهرة مبنية على أسباب مقبولة، وعلى القاضي أن يبين هذه الأسباب في حكمه – وقد يعتمد القاضي على شهادة رجال الحفظ كما قد يعتمد على شهادة أشخاص آخرين إنما يجب أن تدل هذه الشهادة بوضوح على أن المتهم قد ذاع عنه هذا الأمر حتى بلغ حد الشهرة – كذلك من الممكن أن يهتدي القاضي بما ورد في الفقرتين الثانية والثالثة من المادة الثانية من القانون (24) لسنة 1923 من تحديد للأشخاص الخطرين كأن يكون المتهم قد سبق اتهامه عدة مرات بارتكاب هذه الجرائم وحفظت الدعوى الجنائية فيها لعدم كفاية الدليل أو بُرئ منها لبطلان شاب إجراءات التحقيق كبطلان التفتيش في قضايا الاتجار بالمخدرات أو بطلان الاعتراف المنسوب للمتهم وهكذا.
والمناط في كل هذا الأمر أن يقوم لدى القاضي الاقتناع بأن المتهم قد اتصف بالخطورة لاشتهاره بأنه اعتاد ارتكاب هذه الجرائم التي حددها القانون.
وأخيرًا، وبعد أن فصلنا النظرية السابقة وحاولنا تطبيقها فيما يتعلق بجريمة الاشتباه المنصوص عنها في المادة الخامسة من المرسوم بقانون (98) لسنة 1945 – هل تسعفنا هذه النظرية في تفهم الجريمتين الأخريين المنصوص عنهما في المادتين السادسة والسابعة من هذا المرسوم بقانون ؟
تنص المادة السادسة على أنه (يعاقب المشتبه فيه بوضعه تحت مراقبة البوليس مدة لا تقل عن ستة أشهر ولا تزيد على خمس سنين، وفي حالة العود تكون العقوبة الحبس والوضع تحت مراقبة البوليس مدة لا تقل عن سنة ولا تزيد على خمس سنين).
كما تنص المادة السابعة على أنه (يجوز للقاضي بدلاً من توقيع العقوبة المنصوص عليها في الفقرة الأولى من المادة السابقة أن يصدر حكمًا غير قابل للطعن بإنذار المشتبه فيه بأن يسلك سلوكًا مستقيمًا فإذا وقع من المشتبه فيه أي عمل من شأنه تأييد حالة الاشتباه فيه في خلال السنوات الثلاث التالية للحكم وجب توقيع العقوبة المنصوص عليها في الفقرة الأولى من المادة السابقة).
وظاهر من نص هاتين المادتين أنهما تشيران إلى جريمتين مختلفتين:
الأولى: العود للاشتباه بعد الحكم بمراقبته.
الثانية: وقوع عمل من المشتبه فيه من شأنه تأييد حالة الاشتباه وذلك خلال ثلاث سنوات من الحكم بإنذاره.
ويبدو لنا أنه من المستحسن أن نحاول شرح المقصود من هاتين المادتين معًا ولنبدأ بالجريمة الثانية.
أعطى المشرع للقاضي الحق في أن يمهد للمتهم الطريق للعدول عن الميول الإجرامية التي بدت لديه بأن يصدر عليه حكمًا بالإنذار بأن يسلك سلوكًا مستقيمًا بدلاً من توقيع عقوبة المراقبة عليه كما أعطى للمتهم فرصة ثلاث سنوات يصلح فيها من شأنه ويتبع الطريق المستقيم بحيث إنه إذا نقضت هذه الفترة دون أن يتجه بنشاطه اتجاهًا إجراميًا فإن هذا الحكم بالإنذار يسقط عنه – وإلا فإذا وقع منه عمل يؤيد حالة الاشتباه لديه فإنه يستحق العقاب.
فما هو العمل الذي قد يقع من المشتبه فيه ويؤيد حالة الاشتباه لديه ؟
طبقًا للنظرية التي ذكرنا أساسها – يكون هذا العمل هو الذي يدل على أن المتهم لا يزال يتصف بالخطورة على المجتمع لارتكابه جرائم معينة، فإن حكم على هذا المشتبه فيه في جريمة من هذه الجرائم فالأمر واضح ولكن هل مجرد اتهامه يدل على توافر حالة الاشتباه لديه من جديد ؟
النظرية التي اعتنقناها تجعل التقدير للقاضي فهو الذي يضع أمام بصره هذا الاتهام ليرى مدى جديته فإن ثبت لديه أنه اتهام جدي فقد توافرت أركان الجريمة.
كذلك إذا اُتهم هذا الشخص وحُفظت القضية ضده لعدم كفاية الأدلة أو اُتهم وقُدم للمحاكمة ولكنه بُرئ بسبب بطلان في إجراءات التحقيق أو لعدم كفاية الدليل.. كل هذه الأمور يمكن أن يعتمد عليها للحكم على المتهم في هذه الجريمة.
وإنما يجب أن يكون هذا العمل الذي يعتمد عليه القاضي في إدانة المتهم قد وقع خلال ثلاث سنين من الحكم بإنذار، فالعبرة بتاريخ الفعل نفسه وليس بالحكم أو التصرف القانوني الصادر فيه.
وكما قلنا يجب أن يتثبت القاضي من أن الاتهام الموجه للمتهم اتهام جدي وهذا ما حكمت به محكمة النقض المصرية (القضية رقم 1645 سنة 18 قضائية جلسة 4/ 1/ 1949 المجموعة السابقة).
لا صعوبة إذن فيما يتعلق بالجريمة السابقة الذكر وإنما تثور الصعوبة فيما يتعلق بجريمة العود للاشتباه – فالعود قد نظمت أحكامه في الباب السابق من الكتاب الأول من قانون العقوبات وقد نصت المادة العاشرة من المرسوم بقانون (98) لسنة 1945 على أنه (تعتبر عقوبة الوضع تحت مراقبة البوليس المحكوم بها طبقًا لأحكام هذا المرسوم بقانون مماثلة لعقوبة الحبس فيما يتعلق بتطبيق أحكام قانون العقوبات وقانون تحقيق الجنايات أو أي قانون آخر) – فإذا اعتبرنا عقوبة المراقبة المنصوص عنها في المادة السادسة من قانون الاشتباه في حكم الحبس المنصوص عنه في المادة (49) من قانون العقوبات نجد أنه لا ينطبق على حالة العود للاشتباه سوى نص الفقرتين الثانية والثالثة من المادة (49) عقوبات لأن الفقرة الأولى خاصة بحالة ما إذا كانت السابقة عقوبة جناية.
وعلى ذلك نجد أن العود يتحقق في حالتين:
1 – إذا حُكم على شخص في جريمة اشتباه بالمراقبة مدة سنة أو أكثر وثبت أنه ارتكب جريمة اشتباه قبل مضي خمس سنين من تاريخ انقضاء هذه العقوبة أو من تاريخ سقوطها بمضي المدة.
2 – إذا حُكم على شخص في جريمة اشتباه بالمراقبة مدة أقل من سنة واحدة وثبت أنه ارتكب جنحة اشتباه مماثلة للجريمة الأولى قبل مضي خمس سنين من تاريخ الحكم بالمراقبة.
وقد كان بحثنا السابق عن الركن الأول للعود (أي السابقة) وبعبارة أخرى كان كلامنا عن جريمة الاشتباه والآن لنبحث في الركن الثاني أو الجريمة اللاحقة التي يتكون بها ظرف العود للاشتباه.
هل يشترط أن تتوافر جريمة اشتباه جديدة بعناصرها من الحكم على المتهم أكثر من مرة لارتكابه جرائم من المبينة في المادة الخامسة أو تقوم لديه شهرة جديدة بأنه اعتاد ارتكاب بعض هذه الجرائم ؟
صعوبة الأمر ناتجة من أن جريمة الاشتباه كما قلنا صفة وليست فعلاً أو امتناعًا محددًا حتى يمكن تعيين مبدئه ونهائيته فيستحيل إذن أن يكون الشارع قد قصد بالعود للاشتباه المعنى المقصود في المادة (49) عقوبات وإلا كان من المستحيل تطبيقها إذ كيف نصل إلى معرفة أن الشهرة قد توافرت لدى المتهم من جديد خلال خمس سنين من تاريخ انقضاء عقوبة المراقبة أو من تاريخ سقوطها بمضي المدة، كما تنص المادة (49) فقرة (2) عقوبات أو قبل مضي خمس سنين من تاريخ الحكم بالمراقبة كما تنص المادة (49) فقرة (3) عقوبات.
وما معنى أن يغير المشرع طبيعة الجريمة في حالة الحكم بالإنذار عنه في حالة الحكم بالمراقبة ؟
لا شك أن الشارع لم يقصد أن العود للاشتباه هو بذاته العود المنصوص عليه في المادة (49) عقوبات كما أنه لم يقصد أن يغير الحكم في حالة الإنذار عنه في حالة المراقبة، فكل اختلاف بين جريمتي ارتكاب فعل من شأنه تأييد الاشتباه والعود للاشتباه هو أن الجريمة الأولى تقع بارتكاب الفعل في خلال ثلاث سنين من تاريخ الحكم بالإنذار في حين أن الثانية تقع بارتكابه في خلال خمس سنين من تاريخ الحكم بالمراقبة، وهذا هو ما قضت به محكمة النقض المصرية إذ قالت (إنه يبين من مقارنة نص المادتين (6) و(7) من المرسوم بقانون رقم (98) سنة 1945 أن المراد بما ذكرته الفقرة الثانية من المادة السادسة من عبارة (حالة العود) ليس هو العود بالمعنى الوارد في المادة (49) من قانون العقوبات وإنما المراد به هو أن يقع من المشتبه فيه بعد الحكم عليه بالاشتباه أي عمل من شأنه تأييد حالة الاشتباه السابق الحكم بها عليه وذلك وفقًا لما جاء في الفقرة الثانية من المادة (7) من المرسوم المذكور – إذ لا يوجد أي مبرر للقول باختلاف معنى العود في حالة سبق الحكم بالإنذار وحالة سبق الحكم بالمراقبة) (القضية 893 سنة 19 قضائية جلسة 7/ 6/ 1949 المجموعة السابقة صـ 918. وحكم في القضية 1112 سنة 22 قضائية جلسة 30 ديسمبر سنة 1952 مجموعة الأحكام الصادرة من الدائرة الجنائية بمحكمة النقض – السنة الرابعة – العدد الأول صـ 295).
وقد يبدو لأول وهلة أن المشرع عندما ميز جريمة ارتكاب فعل من شأنه تأييد حالة الاشتباه لدى الجاني عن جريمة الاشتباه بأن حدد ركن الجريمة الأولى بفعل مادي تقع به هذه الجريمة قد قصد أن يخالف النظرية المفهومة من نص المادة الخامسة من قانون الاشتباه إلا أن تطبيق هذه النظرية التي استخلصناها كما سبق من روح التشريع والحكمة منه وتطور التقنين يدعو إلى القول بأن المشرع قصد العقاب على خطورة المتهم التي يدل على وقوع هذا الفعل منه من جديد ومن ثم يخضع لتقدير القاضي شأنه شأن الأحكام الصادرة ضد المتهم (السوابق) أو الشهرة في جريمة الاشتباه المنصوص عنها في المادة الخامسة، غير أنه بالرغم من تطبيق هذه النظرية يتعين علينا القول بأنه ما دام الركن المادي في جريمة (وقوع فعل يؤيد حالة الاشتباه) وتبعًا في جريمة (العود للاشتباه) قد تحدد بفعل معين فقد أصبحت الجريمة شأنها شأن بقية الجرائم ومن ثم تخضع للتقسيم الذي يقول به الشراح.
فما موضع هاتين الجريمتين من هذا التقسيم ؟
ظاهر من أن المشرع في المادة السابعة قد عبر عن الجريمة بقوله (.. فإذا وقع من المشتبه فيه أي عمل من شأنه تأييد الاشتباه..)، قد جعل ركنها المادي هو وقوع هذا العمل وبذلك تكون هذه الجريمة جريمة وقتية لا جريمة مستمرة لأنها تقوم بوقوع هذا العمل كما تعتبر جريمة بسيطة لا جريمة عادةً لأن القانون يعاقب على وقوع هذا العمل لا على تكراره، وبذلك يكون وضع هذه الجريمة من القانون قد تحدد فتسري عليها أحكام الجريمة الوقتية والجريمة البسيطة.
وكما سبق أن ذكرنا يجب أن يضع القاضي أمام عينيه على الدوام أن المشرع لا يعاقب الشخص لمجرد ارتكابه هذا الفعل – كما أنه لا يعاقبه لسوابقه أو لاشتهاره – وإنما يعاقبه على ميوله الإجرامية الخطرة ولذا يجب أن يتثبت من أن هذا العمل الذي ارتكبه الجاني بالنسبة للجريمة المنصوص عليها في المادتين السادسة والسابعة من قانون الاشتباه يدل دلالة كافية على خطورة هذا الشخص.
وبعد، فإن محكمة النقض المصرية قد كفتنا مشقة البحث في جرائم الاشتباه فلم نكن أكثر من جامعين لهذه الأحكام الكثيرة التي صدرت منها في هذا الشأن وقد استخلصنا منها ما نعتقد أن محكمتنا العليا قد اعتنقته من قواعد لهذه الجرائم ووضعنا هذه القواعد كلاً بجانب الآخر ثم حاولنا استخلاص نظرية عامة هي التي حاولنا فيما سبق بيانها.
ولعلي قد وفقت في عرض هذه النظرية.
وما توفيقي إلا بالله رب العالمين.