أحكام اليمين بإعتبارها أحد إجراءات الإثبات في النظام السعودي.
قبل الولوج في تفصيل الإجراءات المتعلقة باليمين، يَحسُن بنا الوقوف عند اليمين والمراد بها، وثمرتها وأبرز أحكامها في النقاط الآتية:
أولاً: اليمين في اللغة تُطلق على معانٍ؛ منها: القوة والقدرة، ثم أُطْلِقت على اليد اليمنى والحلف، وسُمِّي الحلف بالله يمينًا؛ لأن به يتقوَّى أحد طرفي الخصومة.
ثانيًا: الفقهاء متَّفقون على أنَّ اليمين أحد الطرق المستعملة في القضاء، وأنها تَقطع الخصومة في الجملة.
وأنَّ اليمين لا توجَّه إلاَّ بعد دعوى صحيحة، وأنَّ اليمين تكون بالله تعالى، وأنها توجَّه في مجلس القضاء من القاضي.
ثالثًا: فقهاء المذاهب متَّفقون على أنَّ التحليف يكون في المال، وما يَؤول إلى المال، واختَلفوا في دخول اليمين في النكاح والرَّجعة والإيلاء والنَّسب، ونحوها.
رابعًا: الفقهاء متَّفقون على أنَّ اليمين تَبطل بها دعوى المدَّعي على المدَّعى عليه؛ أي: إنها تَقطع الخصومة في الحال، لكنَّهم يختلفون في انقطاع الخصومة مُطلقًا باليمين، على معنى أنه إذا حَلَف المدَّعى عليه اليمين، هل للمدَّعي أن يعودَ إلى دعواه إذا وجَد بيِّنة؟
في المسألة خلاف، والأقرب والله تعالى أعلم أنَّ يمين المدَّعى عليه تَقطع الخصومة في الحال فقط، فإذا وجَد المدَّعي بيِّنة، كان له أن يُعيد الخصومة؛ لأن اليمين بدل عن البيِّنة، فإذا جاء الأصل انتهَى حكم البدل، ولأن اليمين تُفيد قطع الخصومة في الحال، لا براءة من الحقِّ؛ لأنه – صلى الله عليه وسلم – أمَر حالفًا بالخروج من حقِّ صاحبه؛ كما ورَد في مسند أحمد والنسائي والحاكم عن ابن عباس، وأعلَّه ابن حزم بأحد رُواته، وقال أحمد محمد شاكر: إسناده صحيح؛ “تلخيص الحبير” (4 / 209) ، وتحقيق المسند أحمد محمد شاكر (4 / 244).
فلو حلَّف المدَّعي المدَّعى عليه، ثم أقام بيِّنة بمدَّعاه، أو شاهدًا ليَحلف معه، حُكِم بها.
خامسًا: ذهَب جمهور العلماء إلى أنه يقضى باليمين مع الشاهد الواحد في الأموال، وما يؤول إليها دون غيرها؛ لحديث ابن عباس – رضي الله عنهما – في صحيح مسلم أنَّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قضى باليمين مع الشاهد.
سادسًا: توجيه اليمين يكون من القاضي بطلب المدَّعي، أو مَن يقوم مقامَه؛ ولذا لا عِبرة باليمين التي يَحلفها المدَّعى عليه في مجلس القضاء، قبل أن يَطلبها منه القاضي.
سابعًا: التحليف على فِعل النفس يكون على البَتات؛ أي: القطع بأنه ليس كذلك، كما لو ادُّعِي على زيد أنَّ في ذِمَّته مالاً للمدَّعي، فإن المدَّعى عليه زيد هنا يَحلف على القطع؛ أي: يَحلف بالله تعالى إنه ليس للمدَّعي في ذِمَّتي المال الذي يَدَّعيه.
وأمَّا التحليف على فِعل الغير، فيكون على العلم، كما لو ادَّعى زيد على خالد، مطالبًا بأرض يدَّعي أنَّ أبا خالد اغتصَبها منه، وليس لدى المدَّعي بيِّنة، فهنا يَحلف خالد على أنه لا يعلم أن أباه اغتصَب الأرض من زيد.
وقد ورَد نحو هذا في عهد النبي – صلى الله عليه وسلم – فقد أخرَج أبو داود وغيره عن الأشعث بن قيس – رضي الله عنه – أنَّ رجلاً من كندة ورجلاً من حضرموت اختصَما إلى النبى – صلى الله عليه وسلم – فى أرض من اليمن، فقال الحضرمى: يا رسول الله، إنَّ أرضى اغتصَبْنِيها أبو هذا وهى فى يده، قال: ((هل لك بيِّنة؟))، قال: لا، ولكن أُحَلِّفه، والله ما يعلم أنها أرضي اغتَصَبْنِيها أبوه.
ثامنًا: ما الذي يَحلف به الحالف؟ لا يَحلف إلاَّ بالله تعالى، أو بصفة من صفاته؛ لقول النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((مَن كان حالفًا، فليَحلف بالله أو ليَصمت))؛ أخرَجه البخاري.
فلو حلَّفه بغيره، كالطلاق ونحوه، لَم يكن يمينًا.
تاسعًا: هل يسوغ افتداء اليمين والمصالحة عليها؟
قال أهل العلم: يَصِح للمدَّعى عليه افتداء اليمين، والصلح عنها؛ لِما رُوِي أنَّ عثمان – رضي الله عنه – افتدى يمينه، وقال: خِفتُ أن تصادفَ قدرًا، فيقال: حَلَف فعُوقِب، أو هذا شؤمُ يمينه.
وإذا افتدى المدَّعى عليه يمينه، فلا يَحلف بعده أبدًا؛ لأنه أسقَط حقَّه في الخصومة، ولأن كرام الناس يترفَّعون عن الحلف تورُّعًا.
عاشرًا: الأصل أنَّ اليمين على المدَّعى عليه في حال عدم وجود بيِّنة للمدَّعي، ولكن هل يُمكن أن تُرَدَّ اليمين على المدَّعي؟ في المسألة رأْيان:
أوَّلهما: مذهب الحنفية، وأحد قولين للإمام أحمد، أنه إذا كانت للمدَّعي بيِّنة صحيحة، قُضِي له بها، فإن لَم تكن له بيِّنة، طَلَب يمين المدَّعى عليه، فإن حلَف بعد عَرْض القاضي اليمين عليه، رُفِضَت دعوى المدَّعي، وإن نَكَل المدَّعى عليه؛ أي: امتَنع عن اليمين بلا عُذرٍ، فإن كان المدَّعى مالاً، أو المقصود منه المال، قُضِي عليه بنكوله، ولَم تُرَدَّ اليمين على المدعي؛ لقوله – صلى الله عليه وسلم -: ((لو يَعطى الناس بدعواهم، لادَّعى ناس دماءَ رجالٍ وأموالهم، ولكن اليمين على المدَّعى عليه))؛ أخرَجه مسلم.
فحصَرها في جانب المدَّعى عليه.
والرأي الثاني: واختار أبو الخطاب من الحنابلة أنه يجوز ردُّ اليمين على المدَّعي، فإن حلَف المدَّعي، حُكِم له بما ادَّعاه.
حادي عشر: حلف اليمين أمرٌ له خطورته، فمَن حلَف صادقًا، فلا تثريبَ عليه، وأمَّا مَن حلَف كاذبًا، فقد أوقَع نفسه في وعيد شديد؛ ففي الصحيحين عن أبي أُمامة أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ((مَن اقتطَع حقَّ امرئ مسلمٍ بيمينه، فقد أوجَب الله له النار، وحرَّم عليه الجنة))، فقال له رجل: وإن كان شيئًا يسيرًا يا رسول الله، قال: ((وإن قضيبًا من أراك)))، وفي الصحيحين أيضًا عن عبدالله بن مسعود – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((مَن حلَف يمينَ صبرٍ؛ ليَقتطع بها مال امرىء مسلمٍ، لَقِي الله وهو عليه غضبان))، فأنزَل الله تصديقَ ذلك: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [آل عمران: 77].
قال: فدخَل الأشعث بن قيس، وقال: ما يُحدثكم أبو عبدالرحمن، قلنا: كذا وكذا، قال: فيّ أُنْزِلت: كانت لي بئرٌ في أرض ابن عمٍّ لي، قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((بيِّنتُك أو يَمينه))، فقلت: إذًا يَحلف يا رسول الله، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((مَن حلَف على يمينَ صبرٍ، يقتطع بها مال امرىء مسلمٍ، وهو فيها فاجرٌ – لَقِي الله وهو عليه غضبان)).